لطالما مثّل سوء إدارة الأراضي في لبنان عقبة أساسية أمام إقامة اقتصاد منتج. وهو أمر يعود إلى عدّة عقد من عدم وجود نية في الدولة اللبنانية للتحوّل إلى اقتصاد منتج، بالإضافة إلى عدم وجود آلية مناسبة في الدولة لإدارة هذا المورد المهم. ورغم وجود مخططات سابقة للأراضي اللبنانية، وضعها مجلس الإنماء والإعمار في عام 2005، إلا أنه لم تتضح أي نيّة من قبل الحكومات المتعاقبة للاستفادة منها في تطبيق خطط اقتصادية شاملة، وذلك لأن النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً كان مناسباً للمنتفعين العاملين في المجال السياسي وأصحاب رؤوس الأموال في القطاعات التي ازدهرت على ظهر النموذج القائم. القوانين اللبنانية التي تُعنى بإدارة أراضي الدولة، تعود إلى زمن الانتداب الفرنسي. والجهات التي يفترض أن تضع خططاً لإدارة الأراضي بشكل يخدم التوجّه الاقتصادي لا تُعطى أهمية بالغة، فليس هناك أي سلطة على الأراضي المملوكة للأفراد أو المؤسسات، باستثناء إدارة التخطيط المدني التابعة لوزارة الأشغال العامة والنقل، وهي المسؤولة عن تصنيف الأراضي والتطبيق، إضافة إلى مسؤوليات ووظائف أخرى. وينعكس سوء الإدارة هذا على الاقتصاد من خلال تشكيل مانع أمام استثمار الشركات بسبب صعوبة الحصول على الأراضي، وهو العقبة الرئيسية أمام أكثر من 32% من الشركات في لبنان بحسب صندوق النقد الدولي.

إدارة الموارد
تُعد إدارة الموارد من أهم وظائف الدولة في تنظيم الاقتصاد، للحصول على أعلى إنتاجية ممكنة من الموارد الموضوعة بين أيدي الفاعلين الاقتصاديين. الأرض أهم هذه الموارد، إذ إن العقار يُعدّ من مدخلات الإنتاج، وهو رأسمال مهمّ لدى الأفراد والمؤسسات والدولة، وبالتالي هو عامل أساسي في توجيه الاقتصاد ورفع إنتاجيته. والإدارة هنا تعني تنظيم استخدام الأراضي بأفضل شكل ممكن، فتُصنف زراعيةً لحمايتها من اجتياح المباني لها بشكل فوضوي، أو تصنّف لغايات محدّدة وفق التوجهات الاقتصادية المرسومة. فعلى سبيل المثال، يجب أن تُستخدم الأراضي الصالحة للزراعة في مجال الزراعة وليس للسكن، وإن كان ضرورياً إيجاد توازن ما بين مختلف الحاجات الفعلية للسكان. والتصنيف نفسه يجب أن ينطبق بهدف تحديد المناطق التي يُسمح بإنشاء مصانع عليها وتُسمى مناطق صناعية، وذلك ضماناً لتسهيل إقامة البنى التحتية اللازمة لهذه المنشآت، مثل النقل والطاقة وغيرهما، ومن شأن ذلك أن يُخفض الكلفة على المؤسّسات والمصانع ويرفع الإنتاجية ويُحفز الاستثمارات. بدلاً من ذلك، فإن سوء إدارة الأراضي يُساهم في عدم استغلالها للزراعة، ما يُكبد الاقتصاد «كلفة الفرصة الضائعة».
هذا الأخير هو مفهوم أسّس له الاقتصادي النمسَوي فريدريش فون فيزر، ثم جرى تطويره من قبل عدة اقتصاديين. كلفة الفرص الضائعة تساوي الأرباح أو الفائدة التي كان يفترض أن تحققها جهة معينة إذا اتخذت قراراً ما، أو بنت استثماراً ما، على سبيل المثال. هذه الأرباح الضائعة تُعد كلفة مهدورة. ويُقاس هذا الأمر بشكل كلّي، أي على الاقتصاد كله، إذ إن عدم استغلال الأراضي الزراعية للزراعة، يُمثل فرصة لأرباح ضائعة على الاقتصاد. والمقصود بالأرباح هنا ليس الأرباح النقدية، بل الفائدة المتأتية من هذه الفرصة على الاقتصاد، لأنها قد تتعلق بخفض أسعار المنتجات الغذائية المنتجة بواسطة هذه الأراضي، ما يسهم في خفض الاعتماد على الاستيراد ويخفف الضغط على الطلب على العملات الأجنبية، فضلاً عن فوائد أخرى مثل العمالة في القطاع الزراعي، والاستثمار في هذا القطاع، وزيادة القدرات التصديرية، وهذا الأمر يسري على باقي الأراضي التي من الممكن أن تُستغل بشكل أفضل مما هي عليه الآن.

الخطط موجودة
خطّة مجلس الإنماء والإعمار، المعروفة باسم «الخطة الشاملة لترتيب الأراضي»، رسمت توجهات لتنظيم الأراضي تغطّي الحاجات للقطاعين العام والخاص وتحاول الاستفادة مما هو متاح من أراضٍ بالشكل الأمثل لكل القطاعات، سواء النقل والسياحة والصناعة والزراعة والتربية والطاقة والمياه والصحة وغيرها. لكن هذه الخطة لم تلقَ أي اهتمام من السلطات التنفيذية، باستثناء إقرارها في مجلس الوزراء وإصدارها بمرسوم في عام 2009.
من أهم الأعمال التي لحظتها الخطة هي إحصاء الأراضي الأفضل للزراعة. فقد صنّفت أن أكثر من 50% من الأراضي في لبنان صالحة للزراعة، ولو بنسب متفاوتة، إذ تعتمد صلاحية الزراعة على نوعية التربة وعمقها واحتوائها على المواد العضوية، ومدى حموضتها وقدرتها على امتصاص المياه، ومواجهتها لأخطار الانزلاق والتآكل، ومدى انحدارها الذي يؤثّر على سهولة استثمارها بالتقنيات شبه الصناعية. وقد أحصى التقرير المناطق الأكثر أهمية وإنتاجية، التي تضم جميع السهول الفسيحة، مثل البقاع وعكار والكورة، والسهول الساحلية الصغيرة، السهل الساحلي الكبير في صور، الصرفند وصيدا، وسهل مرجعيون.
يرتبط تنظيم الأراضي عملياً بجميع الإدارات في الدولة، وهو أمر يحتاج إلى دعم مركزي من الدولة، بحيث تُفرض هذه الخطط على جميع الإدارات


يرتبط تنظيم الأراضي عملياً بجميع الإدارات في الدولة، وهو أمر يحتاج إلى دعم مركزي من الدولة، بحيث تُفرض هذه الخطط على جميع الإدارات. ففي هذا المجال، تقترح الخطة الشاملة لترتيب الأراضي، استحداث آلية في العمل الحكومي على شكل «لجنة حكومية لترتيب وتنظيم الأراضي». ويقوم المجلس بتنسيق البرامج والمشاريع التي تساهم بتحقيق أهداف ترتيب وتنظيم الأراضي. من الواضح أن السلطة التنفيذية أساسية في تنفيذ أي مخطط لتنظيم الأراضي وإدارتها، وهو ما يُفسّر بشكل كبير أسباب الإدارة السيئة للأراضي في لبنان.

آليات وقوانين في وجه الإنتاجية
رغم وجود خطط تتعلق بإدارة الأراضي بشكل مثالي، إلا أن هناك مشاكل تقنية، تضاف إلى مشاكل الإرادة السياسية، تمنع إدارة هذا الملف بشكل جيد. من المهم الغوص في أسباب سوء إدارة الأراضي في لبنان. وقد تكون إحدى أهم العقد في هذا الأمر في ما يتعلّق بالشق القانوني. يقول الباحثان آنا كورسي وهاريس سيلود في تقرير نشره البنك الدولي تحت عنوان «أهمية الأراضي: هل يفلح تحسين الحوكمة وإدارة الندرة في منع وقوع أزمة وشيكة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟».

20%

من الأراضي في لبنان هي مشاعات لا يمكن إدارتها لأنه ليست هناك نصوص قانونية واضحة ترعى هذا الأمر


أجابا: إن القوانين والأنظمة المسؤولة عن تنظيم العمليات التي تخصّ الأراضي قديمة ومنفصلة عن السياق الراهن، إذ إن القوانين في لبنان تعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي، فعلى سبيل المثال قانون تسجيل العقارات الحالي يعود إلى عام 1926. الموضوع لا يقتصر على قوانين تسجيل الأراضي أو غيرها، إنما يُعتبر هذا الأمر شاهداً على تخلّف الآليات والأنظمة التي تُعنى بموضوع الأراضي.
إن استعمال هكذا آليات ينعكس بشكل أكيد على القدرة على وضع أي خطط لتنظيم الأراضي والاستفادة منها بالشكل الأفضل. فمثلاً، يقول التقرير المذكور إنه فقط 65% من الأراضي في لبنان ممسوحة ومسجّلة في الدولة. هذا يعني أن الدولة لا تعرف ما نوع 35% من الأراضي، وكيف يمكن الاستفادة منها، لو قررت وضع مخطط لذلك. بمعنى آخر، في ظل هذه الآليات والأنظمة القديمة، حتى إذا كانت هناك نية عند صناع القرار بوضع مخططات تنظيم مدني تساهم في تحسين الإنتاجية، لا تستطيع الدولة استغلال الأراضي بالشكل الأفضل، لأنها لا تمتلك إحصاءً شاملاً لكل ما لديها من هذا المورد.
لا يمكن الحديث عن النهوض بالاقتصاد من دون مخطط لاستخدام الأراضي على أفضل شكل. والعقبات الموجودة لا تتعلّق فقط بإرادة الدولة للقيام بأمر كهذا، ففي حال وُجدت هذه الإرادة، ستقف القوانين والأنظمة القديمة عائقاً أمام تطبيق هذا الأمر. لذلك، أي مخططات لا يمكن توظيفها إلا إذا مرت من خلال إصلاحات قانونية يرعاها تحديث القوانين التي تُعنى بتنظيم العمليات المتعلّقة بالأراضي.