في نهاية هذه السنة، ثمّة سؤال تدور حوله الكثير من الروايات: هل هذه السنة كانت أسوأ؟ سبب السؤال، أن هناك حالة تململ «كلاسيكية» لا تعبّر كفاية عن أزمة كالتي يشهدها لبنان، بل يفوقها مستوى مرتفع من التكيّف.كان يُعتقد أن انهيار سعر الصرف المثبت بقوّة السياسات النقدية منذ عام 1997، قد يؤدّي إلى «ثورة». لكن ها هو انكسر متضاعفاً 27 مرّة، وسط حالة مذهلة من التكيّف. لا تفسير نهائياً وحاسماً لدى أحد كيف حصل ذلك، إنما المسألة بسيطة: الأزمة تحصل لأن الاقتصاد لم يعد بإمكانه التحمّل، أي أنه يطلب التصحيح. وهذا التصحيح قد يحصل بطرق مختلفة. فإما يكون تصحيحاً بنيوياً للنموذج الاقتصادي المتّبع، أو قد يكون تصحيحاً بين مكوّنات النموذج نفسه. في الحالة الأولى، يكون هناك تغيير جذري وخطط تبدأ بوقف الأزمة وتصل إلى المدى البعيد والأبعد، أما في الحالة الثانية فإن الأمر متروك للتوازنات التي تحكم عمل السوق وميزان القوّة بين أطرافه، أي أن من كان يصيبه النموذج بشكل سلبي، سيواصل إصابته بشكل أكثر حدّة أثناء وبعد التصحيح بين مكوّناته.

المصدر: صندوق النقد، الأخبار، الجمارك | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لا يمكن القول إن هناك مشروعاً لدى أي من أطراف السلطة للسير في الاتجاه الأول، أي التصحيح البنيوي. بالعكس، كلّهم منخرطون في الاتجاه الثاني حيث يكون التصحيح بين المكوّنات، بمعنى أنه يتم توزيع الخسائر وفق معايير ميزان القوّة السائد من دون أي تدخّل فعلي للدولة في هذه العملية. بالمعايير السابقة، كانت آليات التوزيع تمنح القليل للأكثرية، وتمنح الكثير للأقلية. هكذا هي الحال اليوم بعد ثلاث سنوات من الأزمة. فالأكثرية تحصل على دعم غير مباشر لمداخيلها، سواء عن طريق زيادة غلاء المعيشة الهزيلة التي وزّعتها قوى السلطة في إطار عملية «ترقيع» الأجور، أو عن طريق السماح للأفراد من العاملين في القطاعين العام والخاص، الاستفادة من عمليات على «صيرفة» ضمن حدّ أقصى يبلغ 400 دولار للفرد الواحد، ما يحقق لهم دخلاً إضافياً مجانياً بقيمة 70 دولاراً كحدّ أقصى. ويمكن أيضاً لقسم من هذه الأكثرية الاستفادة من التعميم 158 الذي يتيح لكل صاحب حساب سحب 400 دولار نقداً و400 أخرى تُحتسب على سعر صرف يبلغ 12 ألف ليرة، نصفها يُسحب نقداً ونصفها الثاني يُستعمل عبر البطاقة.
أما الأقلية، فقد سبق أن حصلت على ما تريده في السنتين السابقتين. يُقدّر أن قيمة الدعم السنوية التي سدّدها مصرف لبنان تفوق 7.2 مليارات دولار، وهذه الأموال حصل عليها المستوردون والتجار الذين يمتلكون حظوة لدى القوى السياسية، أو يتشاركون معها في ألاعيبهم. كذلك، حصلت هذه الأقلية، على حقّ الاستفادة من عمليات على «صيرفة» من دون حدود، ما أتاح لها المضاربة بمليارات الليرات يومياً، وتحقيق ملايين الدولارات من الأرباح السهلة والسريعة.
يمكن تعداد الكثير من جوانب عملية التصحيح هذه والمستفيدين منها، لكنّ الواقع هو أن التصحيح يحصل. السؤال المطروح الذي يجب أن يُسأل هو الآتي: على حساب مَنْ يحصل هذا التصحيح؟ من يموّل عملية التصحيح هذه؟
الإجابة واضحة في المؤشرات الكليّة؛ التصحيح يحصل على حساب الأكثرية لمصلحة الأقليّة. هناك بعض التعديلات في كل شريحة من هذه الشرائح، إلا أن الأكيد أن الأكثرية تزداد فقراً، والأقلية تحقّق الأرباح. وهي أرباح مموّلة بشكل أساسي من تحويلات المغتربين التي يُقدّر أن الصافي منها (التحويلات الوافدة والتحويلات الخارجة) يبلغ 3.7 مليارات دولار، مضافاً إليها تحويلات المؤسّسات الدولية للسوريين بقيمة تفوق مليار دولار، ثم تحويلات للقطاع الخاص والقوى السياسية. مجموع التحويلات يصل إلى 6 مليارات دولار يتم إدخالها في آلة التوزيع الزبائنية لتعزيز آلية التكيّف التي خلقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خدمة لقوى السلطة.
بمعايير أخرى، تبدو سنة 2022 أسوأ وربما ما سيليها هو أكثر سوءاً. ففي الأشهر الـ11 الأولى من عام 2022 استورد لبنان بـ17.8 مليار دولار، مقابل صادرات بـ3.2 مليارات دولار، أي بعجز تجاري يبلغ 14.2 مليار دولار. عملياً، عاد لبنان إلى حدود قريبة جداً من نمط الاستهلاك السائد في عام 2018 حين كان الاستيراد 19.9 مليار دولار والتصدير 3 مليارات دولار والعجز 17 مليار دولار. أما الأجر الوسطي فقد ارتفع اسمياً من 1.4 مليون ليرة (ضمنه كلفة النقل) إلى 4.6 ملايين ليرة، لكنه بالفعل خسر 80% من قوّته الشرائية. الصناديق الضامنة، الرسمية والخاصة والتعاضدية، أفلست ولم تعد تغطّي أكثر من 20% من فواتير الاستشفاء. هناك تقديرات بأنه منذ الأزمة هاجر من لبنان بشكل نهائي أكثر من 350 ألفاً. كلفة التعليم بدأت ترتفع ليصبح التعليم محصوراً بالأثرياء... ثمّة الكثير من مظاهر التكيّف التي تشير إلى أن هذه السنة ليست هي الأسوأ!