البنزين ينفخ كلفة النقل والإنتاج
في عام 2022 ارتفع سعر صفيحة البنزين بنسبة 111%. السبب الأساسي، يكمن في توقف مصرف لبنان عن دعم استيراد هذه المادة. كان مصرف لبنان يمنح الدولارات لمستوردي البنزين بسعر الصرف المعتمد رسمياً، ثم اعتباراً من صيف 2021 رفعه تدريجاً إلى أن بات المستوردون يجمعون الدولارات من السوق بالسعر الحرّ. وفي ذلك الوقت، كان سعر الدولار في السوق يزداد بشكل مستمرّ، إذ بلغ نحو 43 ألف ليرة لكل دولار أخيراً مقارنة مع 27 ألف ليرة في مطلع هذه السنة، أي بزيادة 59%. بالتالي فإن تسعير مبيع الصفيحة للعموم، صار مرتبطاً بتقلبات سعر الصرف، ما شكّل عاملاً أساسياً لارتفاع سعرها. إلى جانب ذلك، ارتفعت أسعار النفط العالمية اعتباراً من شباط الماضي بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية وما رافقها من عقوبات أميركية وأوروبية على روسيا. وفي السنة الماضية، استورد لبنان 1.5 مليون طن بنزين، أي ما يعادل استهلاك يومي يبلغ 4483 صفيحة بمعدل وسطي 4.25 ليتر يومياً لنحو 800 ألف سيارة خاصة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره



ارتفاع سعر البنزين له انعكاس مباشر على كلفة النقل. ففي لبنان، معظم وسائل النقل تعمل بواسطة هذا النوع من الوقود، وخصوصاً السيارات الخاصّة التي تشكّل الجزء الأكبر من أسطول النقل البرّي في البلد. ومع ارتفاع سعر البنزين زادت كلفة النقل بشكل مطّرد. بحسب مؤشّر أسعار السلع الاستهلاكية الذي تنشره إدارة الإحصاء المركزي، ارتفعت كلفة النقل بنسبة 102% منذ بداية العام حتى شهر تشرين الأول. وتُرجم ذلك في ارتفاع تعرفة «السرفيسات» من من 30 ألف ليرة في بداية السنة إلى 60 ألف ليرة أخيراً. وهذا الأمر ينعكس على كلفة معيشة الأسر، إذ إن النقل كان يمثّل 13.1% من ميزانيات الأسر في 2012، والأكيد أن وزنه ازداد، لكن إدارة الإحصاء المركزي لم تحدّث تركيبة ميزانية الأسرة في لبنان بعد.
هو كلفة أساسية من استهلاكهم، وارتفاعها يعني انخفاض القدرة الشرائية للأسر.
إضافة إلى ذلك، يعدّ النقل عاملاً أساسياً في النشاط الاقتصادي. جميع عوامل الإنتاج تحتاج إلى النقل، من العمّال إلى المواد الأوّلية. سلاسل التوريد هي أيضاً بمختلف مستوياتها متّصلة بالنقل وصولاً إلى البيع بالتجزئة. فالإنتاج النهائي يحتاج إلى النقل ليتم تصريفه في الأسواق. النقل هو مُدخل أساسي في كل الحركة الاقتصادية، وارتفاع كلفته له انعكاسات كبيرة على كل الاقتصاد الكلّي وعلى المجتمع عموماً.


المولّدات تحكم السيطرة
قبل بضعة أشهر من وقف دعم البنزين، كان مصرف لبنان قد أوقف دعم المازوت. أهمية هذه المادة في يوميات المقيمين في لبنان كبيرة. فالمازوت يُستعمل في توليد الكهرباء بشكل أساسي؛ في مولدات مؤسسة كهرباء لبنان، وفي مولدات الأحياء. كما يستعمل أيضاً في عمليات نقل البضائع، وهو وسيلة للتدفئة في المناطق الريفية، وهو العصب الأساسي لاستمرارية المصانع، ولا سيما تلك التي تحتاج إلى الكثير من الطاقة. وبما أن سعر صفيحة المازوت مسعّرة بالدولار، فهي عرضة لتقلبات الأسعار في الخارج، ولتقلبات سعر صرف الدولار في الداخل.
خلال عام 2020، ارتفع سعر صفيحة المازوت بنسبة 120%.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره



واستورد لبنان نحو 2.6 مليون طن من المازوت بقيمة 2.9 مليار دولار حتى تشرين الثاني من السنة الجارية، مقارنة مع 3.11 مليون طن بقيمة 1.9 مليار دولار في عام 2021. كلفة المازوت في السابق كانت أرخص من مصادر الطاقة الأخرى، ورغم ارتفاع أسعاره العالمية، إلا أنه لا يمكن اللجوء على نطاق واسع، إلى وسائل أخرى للطاقة (تدفئة، توليد كهرباء). قد يتطلب الأمر تغيير التجهيزات المنزلية من المازوت إلى الغاز مثلاً، وهذه كلفة إضافية على الأسر. والمازوت أيضاً يسهم بارتفاع كلفة نقل البضائع. في الواقع، الجزء الأغلب من وسائل نقل البضائع براً، تستخدم المازوت، أي أن ارتفاع سعر المازوت يؤدي إلى ارتفاع كلفة نقل البضائع، وينعكس على أسعار السلع.
من ناحية أخرى ينعكس المازوت بشكل كبير على أسعار المولدات. هذه الأخيرة أصبحت تشكّل المصدر الأساسي للكهرباء للأسر اللبنانية. تغطّي مولّدات الأحياء ما بين 10 ساعات و12 ساعة من التغذية بالتيار الكهربائي، في مقابل ساعة يومياً لمؤسسة كهرباء لبنان. ومع ارتفاع أسعار المازوت، ارتفع سعر الكيلواط المنتج بواسطة مولدات الأحياء بنسبة 123% منذ بداية السنة الحالية حتى شهر تشرين الأوّل. وهذا يزيد الأكلاف على الأسر، إذ تُعد فاتورة الطاقة في لبنان ذات حصّة وازنة في استهلاك الأسر. عملياً إن ارتفاع كلفة خدمة أساسية كالطاقة تعني انخفاض حصّة بقية السلع والخدمات «الأقل أهميّة»، ما ينعكس سلباً على رفاهية حياة الأسر اللبنانية. بالإضافة إلى ذلك، ارتفاع أسعار المازوت يعني ارتفاع كلفة تشغيل المولدات الخاصّة، وهي التي تعتمد عليها المصانع والمؤسسات بشكل كبير في ظل غياب كهرباء الدّولة. لذلك، ارتفاع سعر المازوت يعني حكماً ارتفاع كلفة الإنتاج على هذه المؤسّسات، ما ينعكس على قدرتها على إبقاء أبوابها ومفتوحة.
كهرباء لبنان: العجز بعد الفشل
منذ بداية الأزمة في عام 2019، تفاقمت أزمة مؤسسة كهرباء لبنان. قبل الأزمة، كانت المشكلة تتعلّق بعدم كفاية القدرة الإنتاجية لمعامل الطاقة، لتغطية الحاجة الاستهلاكية للمقيمين. لكن بعد الأزمة تحوّلت المشكلة إلى مكان آخر. فلم تعد الدولة اللبنانية قادرة على استيراد الفيول لتشغيل معاملها.


يعود ذلك إلى خفض مصرف لبنان الاعتمادات اللازمة، بالدولار، لشراء الفيول من الخارج. وبمرور الوقت توقّف مصرف لبنان عن فتح الاعتمادات كلياً للمؤسّسة. وفي الأشهر الستة الأولى من السنة الجارية، أنتجت شركة كهرباء لبنان نحو 1601 مليون كيلواط/ساعة، مقابل 4470 مليون كيلواط/ساعة في الفترة نفسها من عام 2021، أي إن الإنتاج انخفض بنسبة 64%. عملياً، الإنتاج المتبقّي اليوم يعتمد فقط على الاتفاق مع العراق بتبادل الفيول بالخدمات الطبية، وهو لا يكفي لإنتاج أكثر من ساعة كهرباء يومياً. اليوم تضطر الأسر اللبنانية للاعتماد على كهرباء مولّدات الأحياء، التي تصل تسعيرتها في بعض المناطق إلى نحو 60 سنتاً لكل كيلواط، في حين إذا قامت شركة كهرباء لبنان بتأمين الطاقة إليهم، كلفة الكيلواط قد تنخفض إلى النصف.
كلفة التعليم تؤلم الأسر
في شهر تشرين الأول من كل عام، تجمع إدارة الإحصاء المركزي أكلاف التعليم التي تمثّل جزءاً أساسياً من ميزانيات الأسر، ومن مؤشر أسعار الاستهلاك. وعلى مدى الأشهر الأثنتي عشرة الماضية، ارتفعت كلفة التعليم بنسبة تزيد على 271%. لكن هذه الأرقام لا تعكس الواقع الفعلي، إذ إن غالبية إدارات المدارس أجبرت الأهالي على تسديد أقساط من دون أن يتضح إذا كانت أدرجتها ضمن ميزانيات المدارس المقدمة لوزارة التربية والتي يفترض أن توقعها لجان الأهل في نهاية السنة الجارية، أو إنهم سعّروها بالليرة وفق أسعار بعيدة عن سعر الصرف الفعلي.


كان قطاع التعليم القطاع الأبطأ في التكيّف مع الأزمة، إلا أنه في العام الدراسي الحالي، شهدت الأقساط المدرسية والجامعية قفزة نوعيّة. فتحوّلت بشكل شبه كامل إلى الدولار. المشكلة في هذا الأمر تكمن في أنه في هذه الظروف التضخميّة في لبنان، يصبح التعليم في موقع متدنٍ في سلّم أولويات الأسر، لذا، يُصبح الخيار الأوضح للأسر غير القادرة على تحمّل الكلفة المرتفعة، الانتقال إلى مدارس أقلّ كلفة، أو إخراج أولادهم من المدارس ومن الجامعات. في الواقع، هذه الظروف تفرض على بعض الأسر أن توجّه أولادها نحو العمل في سنّ مبكرة من أجل المساهمة في مواجهة تبعات الأزمة عليها. على المدى الطويل، هذا الأمر سينعكس على نوعية اليد العاملة المتاحة في البلد، إذ إن الأجيال القادمة ستفقد ميزة «العمالة الماهرة»، التي كانت تتمتع فيها الأجيال السابقة (علماً بأن الاقتصاد اللبناني لم يستفد من هؤلاء إلا من خلال تصديرهم إلى الخارج والاستيلاء على تحويلاتهم).
نحو الموت المبكر
بعد رفع الدعم عن الأدوية، وفقدان الجهات الضامنة القدرة على التغطية الصحية للمضمونين، ودولرة بوالص شركات التأمين، ارتفعت كلفة الصحّة بشكل هائل. هذا الأمر حدث تدريجاً منذ بداية الأزمة. لكن منذ بداية السنة الحالية أصبح معظم المواطنين اللبنانيين متروكين في مواجهة انعكاس الانهيار في سعر الصرف على كلفة الاستشفاء.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

فأصبحت هذه الأخيرة مدولرة نقداً إلى حد كبير، أي أن أسعارها تحتسب بالدولار. هذا الأمر انعكس على قدرة الأسر اللبنانية على الاستشفاء، ما أدّى إلى توجّه بعضهم للقيام بإجراءات بهدف عدم تحمّل الكلفة الكبيرة للطبابة والاستشفاء. ومن هذه الإجراءات، تجاهل زيارة الأطباء والمستشفيات في الحالات «البسيطة»، والتخلّي عن أخذ الأدوية، أو عدم أخذها بشكل منتظم. كل هذه الأمور ستنعكس لاحقاً على المستوى العام للصحّة في البلد، مثل معدّل العمر المتوقّع عند الولادة الذي سينخفض بسبب حالات الموت المبكر التي ستصيب السكّان بسبب تجاهل أمراضهم.
السكن بالدولار النقدي
بحسب إدارة الإحصاء المركزي، ارتفعت كلفة الإيجارات بين مطلع السنة الجارية ونهاية تشرين الأول بنحو 17%. في بداية الأزمة، لم تتأقلم أسعار الإيجارات مع الارتفاع في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وبقيت شبه ثابتة بالليرة. إلا أنه بمرور الوقت، بدأت الإيجارات تزداد انسجاماً مع ارتفاع سعر الصرف لتصبح مدولرة نقداً بشكل عام. قانوناً، عقد الإيجار الأوّل مدّته ثلاث سنوات، وبعدها يمكن فسخه أو تجديده.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا الأمر يعني أنه بعد مرور ثلاث سنوات على انهيار سعر الصرف اعتباراً من منتصف 2019، فإن العقود الجديدة التي اتفق عليها بين المستأجر والمؤجِّر في نهاية 2019، انتهت بنهاية السنة الجارية، أي أنه لم يعد هناك عقود إيجار محتسبة على سعر صرف 1500 ليرة مقابل الدولار. ومن المرجّح أن معظم العقود أصبحت مدولرة (مع السوق الحالية). ارتفاع الإيجارات يعني ارتفاع كلفة السكن على الأسر، وهو من المصاريف الشهرية الأساسية لها. وارتفاع كلفة السكن، يعني انخفاض القدرة على تأمين نوعية حياة جيدة بسبب عدم القدرة على استهلاك السلع والخدمات الأساسية «الأقلّ أهمية». في 2012 كان وزن السكن في ميزانية الأسرة 3.4%، إلا أن الرقم بات أكبر بكثير، وهذا الأمر يمكن التقاط مؤشراته من المعاينة الفردية رغم أنه لم يتم تحديث داتا المعلومات الرسمية بهذا الشأن.