في النموذج الغربي، يُعدّ التبادل التجاري وتدفّق الأموال أساساً في النموّ والتنمية والعلاقات الاقتصادية بين الدول، وهذا هو النهج الذي اتّبعه لبنان منذ استقلاله، انطلاقاً من الشعار المبسّط الذي صوّره جسراً بين الشرق والغرب، والذي يُفهم منه على نحو أدقّ، القيام بدور الوساطة بين العالم العربي والضفة الجنوبية لأوروبا على المتوسط. وعلى الطرف المقابل، يؤدّي تدفّق الأموال بغرض تمويل المشاريع الكبرى، ولا سيما في البنى التحتيّة، دوراً محورياً في العلاقات الاقتصادية التي تكون دول الشرق الناشئة طرفاً فيها. وبذلك لا تُقاس أهميّة التدفقات والاستثمارات بأحجامها بل بالأغراض المخصّصة لها، وكفاءة استخدامها وفعاليتها.
نماذج التمويل وأولوياته
تبيّن الوقائع أن النموذج الشرقي في الاستثمار أكثر فعاليّة في تحقيق الأهداف التشغيليّة والاستراتيجيّة من النموذج الغربي. وسنجد مقارنة معبّرة في ورقة بحثية أعدّها فرانسيس فوكوياما وآخرون، عن المشاريع التي يموّلها ويشرف عليها البنك الدولي وتلك التي تنفذها الصين أو يموّلها البنك الآسيوي لتطوير البنى التحتيّة في طريق الحرير التاريخي الذي يربط الصين بأوروبا تجاريّاً عبر آسيا الوسطى والبلدان العربية. فالاستثمار في الصين يعادل ما بين 35% و40% من ناتجها المحلي، وفي 2010 تجاوزت القيمة الإجمالية لتكوين الرأسمال الثابت في الصين مثيلتها في أميركا، وواصلت صعودها لتلامس 5000 مليار دولار في 2016 مقابل ما لا يزيد عن 3500 مليار دولار في أميركا. ويخصّص بنك التنمية الصيني نحو 70% من قروضه للبنى التحتيّة، وتحتلّ سبع شركات صينيّة مراكز متقدّمة في لائحة الشركات العشر الأوائل في العالم في مجال تنفيذ المشاريع الكبرى. وغالباً ما يكون المردود الاجتماعي والفردي للبنى التحتية كبيراً، إذ لدى التجارب الآسيوية نظرة تكاملية للبنى التحتيّة. فيكون تطوير ميناء مثلاً، مصحوباً بمخططات مكمّلة لتطوير شبكات الطرق والكهرباء والاتصالات، مع أنها لا تأخذ بالاعتبار على نحو كاف الانعكاسات البشرية والبيئية للمشاريع العملاقة (على سبيل المثال أدّى سدّ الممرات الثلاثة في الصين إلى ترحيل 1.5 مليون نسمة فضلاً عن فقدانها 40% من الأراضي الزراعية في خضمّ النهضة الاقتصادية).

أنجل بوليغان ــ المكسيك

تبيّن ورقة فوكوياما الأفضلية التي تتّصف بها آليات العمل الصينية في مجال التمويل. ففي جامايكا مثلاً بُدئ بتنفيذ مشروع طريق سريع بمساعدة أميركية عام 1992 بقيمة تقدر بـ 1.3 مليار دولار وقُسّم المشروع إلى مرحلتين، لكن الشركة الفائزة بالعقد لم تستطع إكمال المشروع بسبب ارتفاع الأكلاف مقارنة بالعائد. ثم استكملت إحدى الشركات الصينية المرحلة الثانية بتمويل من بنك التنمية الصيني، مقابل امتيازات في استثمار الأراضي. علماً بأنه يُسجّل على التجربة الصينية ضعف الشفافيّة وهي لا تتورّع أحياناً عن الاستحواذ على أصول سياديّة في مقابل استثماراتها، كما أنها تفرض التعاقد مع شركات صينيّة، لكن ذلك لا يقلّل من الفرصة التي تتيحها للدول المستضعفة، في الحصول على تمويل منتج بأقل قدر من الشروط قائم على تبادل المنافع.
ويتميّز النموذج الآسيوي للتمويل، بانخفاض المخصّصات الإدارية مقارنة بالمؤسّسات الدولية، إذ تفوق الكلفة الإدارية في البنك الدولي مثلاً عشرة أضعافها في بنك التنمية الصيني كما ورد في دراسة فوكوياما (مثلاً تصل الكلفة الإدارية في برنامج دعم الأسر الفقيرة في لبنان المموّل من البنك الدولي إلى نحو 9%! ما يكفي لضمّ 8500 أسرة إضافية إلى البرنامج). ومن وجوه إخفاق النموذج الغربي، الفشل في تقويم مخاطر المشاريع المنفّذة، وسط شروط تمويل صعبة لا تحظى بالإرادة السياسية الكافية والدائمة للاستمرار بها. فغالبية الدول التي تلجأ إلى صندوق النقد والبنك الدوليّين تعاني من أزمات حادة تضطرها اضطراراً إلى قرع أبواب هاتين المؤسّستين، وعندما تبدأ الأمور بالتحسّن تبحث الدول عن بدائل أو تتنصّل من الالتزامات المتشدّدة التي التزمت بها تحت ضغط الحاجة الماسّة.
وتزيد المشروطية المتبادلة بين البنك وصندوق النقد الدوليين الأمور تعقيداً، والتي تربط التمويل بإصلاحات واسعة النطاق، وتخضع الدول لبرامج فضفاضة وبروتوكولات إقراض موحّدة لا تنسجم مع أوضاعها ، كما أن المعايير قد لا تكون دقيقة وتخلو أحياناً من الموضوعية والإنصاف، مثل المعايير التي تميّز الدول التي تستحق الحصول على منح، وتلك التي تتلقى قروضاً ميسّرة أو عادية، وهل الإصلاحات يجب أن تسبق المساعدة أم يجب أن تكون، وهذا هو الأصح، متزامنة معها وتجري في سياق زمني طويل، علماً بأنّ الدول التي تلجأ إلى المؤسسات الدولية تكون في العادة قريبة من الفشل ولا يمكنها قبل الإنقاذ اتخاذ القرارات الإصلاحيّة المطلوبة. ويُضاف إلى ما تقدم البطء الذي يتسم به عمل البيروقراطيات الدولية وتأثرها بقوى الضغط محليّاً وعالمياً، فضلاً عن انغماس بعض موظفيها بشبهات فساد وتواطؤ ولا سيما في المجتمعات المنقسمة على نفسها.
وفي العموم، لا تراعي الأطر النموذجية للتمويل الدولي أحوال الدول النامية وتأخّر منظوماتها ومشكلاتها السياسيّة وصعوبة اتخاذ القرار فيها. فالدول التي تحتاج إلى الدعم المالي غالباً ما تكون في ذروة الأزمة، ليس فقط اقتصاديّاً وإنما سياسيّاً أيضاً، بل قد تكون أو غالباً ما تكون أزماتها السياسية سبباً في أزماتها الاقتصادية. وتتركّز صعوبة اتخاذ القرار في الدول النامية في المشاريع الإنمائية الكبرى ما يؤدّي إلى المماطلة فيها، فيما تجري الأمور بسهولة أكبر في التسهيلات المالية الجارية التي يكون غرضها تأمين تمويل قصير الأمد لتحاشي الإفلاس والفشل الماليين. ولبنان مثال بارز على ذلك، إذ إن حصّة مشاريع البنى التحتية المموّلة من المؤسّسات الدولية ومن الخارج عموماً لا تكاد تُذكر مقارنة بالسيولة التي حصل عليها لمعالجة تراجع الاحتياطيات الدولية في العقود الثلاثة الأخيرة. وهو ضحيّة أيضاً للشروط المعيارية التي تفرضها المؤسّسات الدوليّة على نحو لا يتناسب مع أوضاعه المتدهورة، وهذا يبرز بالخصوص في تمويل البنك الدولي لبرنامج مساعدة الأسر الأكثر فقراً من خلال قرض ميسّر وليس هبة، وبناء على بروتوكول موحّد لا يميّز بين بلد وآخر.
ولا يقف الأمر عند المزايا التي يتّصف بها النموذج الشرقي للتمويل على نظيره الغربي، بل يتعداه إلى التقدم الذي تحرزه دول الشرق في مضمار التمويل العالمي لتكون في الصدارة بين الدول المصدّرة للاستثمارات. وهذا ما لا يمكن تجاهله عند البحث في الخيارات المتاحة أمام البلدان المتعثرة أو التي تعاني من جفاف مصادر التمويل كلبنان. ففيما تواجه الدول الغربيّة صعوبات مالية وتجارية وتنظيمية تقلل قدرتها على التمويل، تُسجّل زيادة مطّردة في الاستثمارات الأجنبيّة ذات المصدر الشرقي والآسيوي على مستوى العالم وفي المنطقة العربيّة وجوارها على وجه الخصوص. وبحسب تقرير الاستثمار العالمي 2020 الصادر عن الأونكتاد، كانت دول الشرق الآسيوي في 2018 (على رأسها الصين وروسيا وهونغ كونغ وسنغافورة وكوريا) مصدراً لنحو 40% من مجموع الاستثمارات المباشرة الآتية من الاقتصادات العشرين الأكثر تصديراً للاستثمارات، من أصل 884 مليار دولار هي مجموع تدفق الاستثمارات الآتية من الاقتصادات العشرين الكبرى المذكورة. وبالمقارنة بلغت الاستثمارات الخارجة من بلدان آسيا والشرق 11% فقط من المجموع المذكور عام 2009، وبالكاد تصل إلى 20% مع اليابان، فيما لم يكن لبلدان الشرق مساهمات تذكر في تمويل الاستثمارات المباشرة خارج حدودها في أواخر التسعينيات، إذ كانت الدول الصناعيّة الكبرى مصدراً لأكثر من 9% من الاستثمارات المباشرة في العالم.
وتعتمد البلدان العربية وجوارها أكثر فأكثر على الاستثمارات الآتية من الشرق، ومنها ما يساوي 70 مليار دولار من روسيا. وتقدر الاستثمارات الصينية في دول غرب آسيا بنحو 100 مليار دولار، وتستثمر كل من ايران وتركيا في دول المنطقة بمشاريع تقدر بمليارات الدولارات في مجالات الطاقة والاتصالات والتعدين والطرق والسدود والبناء والتشييد والتصنيع ومجالات البنى التحتية المختلفة.
وهكذا تتحول دول الشرق إلى مصدر لا غنى عنه في تمويل الاستثمار العالمي وفق نماذج تمويل أكثر فعاليّة ومرونة وأقل تطلباً، مستفيدة من معدلات الإدخار التي ما زالت مرتفعة فيها مقابل انخفاضها إلى أدنى المستويات في الدول الصناعيّة وبالخصوص في الولايات المتحدة الأميركيّة.

ريادة في التكنولوجيا؟
أدّت الثورات الصناعيّة كما هو معروف إلى زيادة اللامساواة بين الناس، وكانت الابتكارات العلميّة والتكنولوجية المتطورة من أسباب تكتّل الثروة وثمار النمو في الشطر الغربي من العالم، علماً بأنّ نصيب الفرد من الدخل كان متقارباً بين دول المركز والأطراف، بل حتى متطابقاً حتى نهاية القرن الثامن عشر. ووصل التفاوت بين الشرق والغرب إلى ذروته مع الثورة الصناعية الثالثة (ثورة المعلومات)، لكن الأمور ربما تأخذ منحى مختلفاً مع الثورة الصناعية الرابعة (الذكاء الاصطناعي) نظراً للمنافسة القويّة التي بدأ يلقاها الغرب من آخرين. والتفاوت لا يعود إلى الريادة الغربيّة في مجال التكنولوجيا، بقدر ما يُعزى إلى القيود والشروط المشدّدة المفروضة على نقلها، أي إن المشكلة تكمن في اكتساب ونشر المعرفة.
وبحسب تقرير الأونكتاد عن الابتكار للعام 2021، فإنّ التغيّر التكنولوجي في بيئة معولمة هو من محرّكات تفاوت الدخل داخل البلدان وفي ما بينها. ومع ذلك فإنّه يقدّم نوعين من الفرص للدول النامية؛ أوّلاً، يفتح الباب أمام الفئات المهمّشة داخلها للاستفادة من الوفورات الخارجية للتكنولوجيا الرخيصة الثمن كالتي يؤمّنها الذكاء الاصطناعي والطابعات ثلاثيّة الأبعاد مثلاً. وثانياً يتيح إمكانيّة الاستفادة من صفة الأثيريّة التي تتّصف بها العولمة لكسر احتكار بعض الدول والشركات أنواعاً عديدة من التكنولوجيا والتي كان الوصول إليها من دون الانفتاح المعولم صعباً أو باهظ الكلفة. والصين هي مثال بارز على ذلك، وهي التي تبوأت موقع الصدارة في تقنيات فائقة التطور كالجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصال G5 والطائرات بلا طيار والطاقة الشمسيّة وصارت شريكاً للولايات المتحدة في تقاسم الحصة الأكبر من براءات الاختراع في العالم.
وصل التفاوت بين الشرق والغرب إلى ذروته مع ثورة المعلومات، لكن الأمور ربما تأخذ منحى مختلفاً مع ثورة الذكاء الاصطناعي نظراً للمنافسة القويّة التي بدأ يلقاها الغرب من آخرين


ويزيد من أهميّة ذلك التعاظم المتوقع لأسواق التقنيات العالية. فمثلاً يتوقع أن يتوسّع سوق الطائرات بلا طيار من 69 مليار دولار إلى 141 مليار دولار عام 2025، وإنترنت الأشياء من 130 ملياراً إلى 1500 مليار، وتقنية الجيل الخامس من 0.6 مليار إلى 277 ملياراً، والتشغيل الآلي والذكاء الاصطناعي من 32 ملياراً إلى 690 ملياراً، والطاقة الشمسيّة من 54 ملياراً إلى 344 ملياراً. ويتوقع أن تكون للدول الآسيوية حصّة الأسد من هذه الأسواق. ولا يقتصر الأمر على الصين التي ستظلّ بيدها الريادة، بل يشمل دولاً أخرى صاعدة في غرب آسيا كإيران.
وفي حين يعود التفاوت التكنولوجي إلى أسباب بنيوية مثل انخفاض الأجور المرتبط بعوامل ديموغرافية وتنظيميّة تؤثّر على عرض العمل، وتدنّي الإنتاجية العامة للاقتصاد، وضعف الجاهزيّة لاستيعاب التكنولوجيا، يُعزى جزءٌ آخر من الأسباب إلى السياسات، مثل ضعف آليات التمويل الخاضع بدوره للاحتكار، والقيود المتمثّلة في توسيع النطاق المشمول بحماية حقوق الملكيّة وتسخير التكنولوجيا الشبكية لهذا الغرض، والقواعد الصارمة التي تعرقل نقل الأجيال الأحدث من التكنولوجيا، وإخضاع حاجات عامة ومستحقّة لمصالح الشركات متعددة الجنسيّات. لكن الغرب لم يعد قادراً على الانفراد والاحتكار بالطريقة التقليديّة نفسها مع صعود منافسين جديّين وطموحين ومتوثبين، ولذا يعوض بالعقوبات تارة، وبالدخول تارة أخرى في مساومات غرضها إبطاء نمو المعرفة عند مناوئيه ومنافسيه مقابل مكاسب مؤقتة وعابرة يقدمها لهم.
لكن ما زال أمام الدول الناشئة شوط طويل قبل أن تكرّس دورها الريادي على صعيد التكنولوجيا، فالصين التي تعطيها الإحصاءات الصدارة في مجال براءات الاختراع والبحث العلمي، تواجه مشكلة ضعف القيمة التجارية لهذه البراءات وتواجه اتهامات بسرقة الإنجازات العلمية لآخرين. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن هذه الدولة لم تستطع تحقيق خرق اقتصادي لولا كسر احتكار التكنولوجيا وتجاوز الملكيّة الفكريّة. وتقع التكنولوجيا في صلب خطط الصين المستقبليّة، وهي تطوّر إطاراً قانونيّاً مركّباً لحماية حقوق الملكيّة الفكريّة بما يتلاءم مع أولويّات خطّة «صنع في الصين 2025».
إنّ ميزة التكنولوجيا الآتية من الشرق، هي أنها مندمجة برؤية دولها للتنمية وأكثر ارتباطاً بالسلع العامة منها بحاجات الاستهلاك الفردي، وهي تنتقل بسهولة عبر قنوات التجارة والاستثمار، ولا تكون مصحوبة بقيود تقف عثرة أمام انسيابها عبر البلدان.