لنعطي وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في العالم النامي لحظة تأمّل. لعلّهم «تنفّسوا الصعداء» عندما قرّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في اجتماعه الأخير في 28 تموز، عدم رفع أسعار الفائدة. ومع ذلك، هم يعلمون أن إرجاء قرار رفع الفائدة هو أمر مؤقّت فقط. ورغم أن متحوّر دلتا يمكن أن يبطئ التعافي الاقتصادي، فإن السؤال الأساسي ليس ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي سيقيّد سياسته النقدية، بل متى سيفعل ذلك.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

عندما يحدث ذلك، فإنه حتماً سيضيف مشاكل تضاف إلى المشاكل الحالية التي تعاني منها الأسواق النامية، وهي شديدة ومعقّدة. وعلى مدى العقود الماضية، اضطرت هذه البلدان النامية إلى التعوّد على التعامل مع الآثار غير المباشرة لسياسات الاقتصاد الكلي التي تعتمدها الاقتصادات المتقدمة. لكن هذه البلدان النامية لم تشعر سابقاً باستغلالها من قبل الدول المتقدّمة بطريقة وحشية، من خلال هذا الارتباط المحكم بين الطرفين، كما هي الحال اليوم. ففي حين أن صانعي السياسات في الاقتصادات المتقدّمة يخشون ويتجادلون حول إذا كان الجمع بين التحفيز المالي والانتعاش الاقتصادي السريع، نسبياً، سيؤدّي إلى التضخم في بلدانهم، فقد وصل هذا التضخم بالفعل إلى العالم النامي على شكل ارتفاع سريع في أسعار السلع الأساسية العالمية، بما في ذلك أسعار السلع الغذائية. الأسوأ من ذلك، أن العديد من الأسواق الناشئة يواجه الآن تهديداً أكثر خطورة، يتمثّل في الركود التضخّمي، أي ارتفاع التضخّم حتى مع استمرار معدلات النشاط الاقتصادي والتوظيف بمستوى منخفض.
لنضع في الاعتبار الأزمة الرباعية التي يواجهها الآن معظم أسواق البلدان النامية، وهي:
1) الجائحة لا تزال مستعرّة ولا تلوح في الأفق نهاية واضحة لها.
2) القيود الخارجية والداخلية على الإنفاق الحكومي.
3) الآثار غير المباشرة الناتجة من السياسات المالية والنقدية للاقتصادات المتقدمة، وأنماط التجارة، التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وإلى ضغوط تضخّمية أخرى، ولكنها لا توفر أسواقاً أوسع لصادرات البلدان النامية. إذا أضفنا تأثير تغيّر المناخ، فيتضح لنا أن هناك مشاكل كبيرة ومتتالية تهدّد هذه الدول.
تستمرّ جائحة كورونا بلا هوادة في العديد من هذه البلدان، ما أدّى إلى المزيد من الوفيات، والتداعيات الصحية السلبية الطويلة المدى، فضلاً عن الدمار الاقتصادي. ويعدّ الانتشار غير المتكافئ للتحصين ضد الفيروس (أو اللقاحات) سبباً رئيسياً لذلك، إذ استحوذ عدد قليل من البلدان الغنية، سريعاً، على الإمدادات العالمية من الجرعات المتاحة عن طريق الشراء المسبق، وقد كانت الكمية التي اشترتها هذه الدول تتجاوز عدة مرات ما تحتاجه لتطعيم سكانها. وهم يواصلون تخزين إمدادات اللقاحات التي لن يستخدمونها على الأرجح، رغم الوعود التي قطعوها بخلاف ذلك في قمة مجموعة السبع في حزيران الماضي. كما يواصل العديد من دول مجموعة السبع معارضة التنازل لمنظمة التجارة العالمية عن قوانين الملكية الفكرية، ما يسهّل على الدول النامية تصنيع اللقاحات. وكذلك لم تدفع أي حكومة من الدول الغنية حتى الآن صانعي اللقاحات لديها لمشاركة التكنولوجيا مع مجموعة «الوصول إلى تكنولوجيا كوفيد-19» التابعة لمنظمة الصحة العالمية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإستراتيجية المتبعة في ما يخص اللقاحات، هي قومية بشكل صارخ وأنانية وظالمة وغبية وتؤذي الذات. فمع انتشار الوباء، سيتحور الفيروس بشكل حتمي؛ وبالفعل، يبدو أن متحوّر دلتا قد أصاب أعداداً كبيرة من الأشخاص الذين تم تطعيمهم في بريطانيا والولايات المتحدة. وعندما يكون هناك نقص في الوصول إلى اللقاح، من الطبيعي أن يتسبب الوباء في إحداث فوضى صحيّة مجدداً. والأسواق الناشئة، التي كانت تأمل بالتعافي، يجب أن تواجه الآن أنظمة الصحة العامة المنهكة والتي تعاني من نقص في التمويل واستمرار الاضطراب الاقتصادي.
عندما يندفع رأس المال للخروج من الأسواق النامية، فإنه يترك خلفه عملات آخذة في انهيار قيمتها، وأنظمة مصرفية متضررة، ومخاوف بشأن سداد الديون


وقد وصل الأمر، إلى أنه عندما اكتشف العالم المتقدم فجأة مباهج الإنفاق العام لشراء اللقاحات، ودعم الدخل، وتعزيز الاقتصاد، فإن معظم البلدان النامية تفتقر إلى القدرة المالية اللازمة لمواجهة هذه التحديات. ويقدر صندوق النقد الدولي أنه من بين 9.93 تريليون دولار من الإنفاق الحكومي الإضافي والإيرادات المفقودة بين كانون الثاني 2020 وآذار 2021 في جميع أنحاء العالم، هناك مبلغ 7.98 تريليون دولار (أو ما يعادل 80 في المئة) جاء من مجموعة السبع، وثلاث دول أخرى اقتصاداتها متقدمة. فالولايات المتحدة وحدها، خصّصت مبلغ 5.33 تريليونات دولار، وهي تمثّل أكثر من نصف المبلغ الإجمالي المذكور. وبحسب البنك الدولي، فإنه بحلول حزيران 2020، بلغ متوسط الموجّة الأولى من الدعم المالي استجابة لـكوفيد-19، بما في ذلك القروض والضمانات والإيرادات الضائعة، 20.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات المتقدمة، و5.9 في المئة في الأسواق الناشئة، و1.8 في المئة في البلدان منخفضة الدخل.
ففي الاقتصادات الناشئة والنامية، تعاني الحكومات من الديون الخارجية المفرطة، وتنفق على خدمة الديون أكثر مما تنفق على الصحة العامة. ويقع اللوم في هذا الأمر على عدم وجود تدابير دولية فعالة لإعفاء هذه الدول من الديون السيادية، أو إعادة هيكلة ديونها، ما قد يؤدّي إلى انهيار هيكل الديون على أصحابه مستقبلاً. وبعض الحكومات الأخرى، ترتدع عن الإنفاق خوفاً من رد فعل الأسواق المالية على عجزها المالي، إذا سمحت بمزيد من الارتفاع لهذا العجز، بما يجعله أكثر من اللازم، حتى لو كانت ترتفع نسب العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي بسبب انهيار الإيرادات. وتعني هذه القيود المفروضة على المزيد من الإنفاق، أن الحكومات لم تفعل ما يكفي لمواجهة التأثير الانكماشي على الاستهلاك والاستثمار الناجم عن الوباء وعمليات الإغلاق المرتبطة به.
الآن تواجه البلدان النامية مشكلتين أخريين هما: احتمال حدوث تضخّم محلّي بسبب ارتفاع الأسعار العالمية، واحتمال تشديد أسواق الائتمان الدولية حيث يتم امتصاص رأس المال من قبل الدول الغنية، وبخاصة الولايات المتحدة، التي تم تعزيز اقتصاداتها وأسواقها المالية من خلال التحفيز المالي والنقدي.
والمخاوف بشأن التضخم في الدول المتقدمة، هي في أغلبها في غير محلّها وسابقة لأوانها، فالزيادات الأخيرة في الأسعار كانت نتيجة تزامن الاختناقات التي عانى منها العرض في السوق، وهي مشكلة قصيرة الأجل مع انتعاش الطلب في هذه الاقتصادات. ولكن باستثناء الصين وعدد قليل من البلدان الأخرى، لا يزال معظم العالم النامي يعاني من ضعف الطلب والاقتصادات المتقلّصة. ومن غير المرجح أن تحصل الضغوط التضخّمية في هذا السيناريو لولا الارتفاع الحاد في الأسعار العالمية.
وتُظهر الارتفاعات الأخيرة في معدلات التضخم في العديد من البلدان كيف سيكون السيناريو في البلدان النامية حيث يستمر النشاط الاقتصادي في الانخفاض في بلدان مختلفة مثل المكسيك والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا والفيليبين. فمثلاً، في البرازيل، رغم أن الإنتاج لا يزال أقل بكثير من مستوى ما قبل الوباء ومعدّل البطالة الرسمي أعلى بنسبة 14 في المئة، رفع البنك المركزي أسعار الفائدة في شهر آذار الماضي، بعدما ارتفع مؤشّر أسعار الاستهلاك بأكثر من 6 في المئة على أساس سنوي. وفي المكسيك، التي شهدت واحدة من أضعف حالات التعافي في أميركا اللاتينية، يقابل التضخّم الذي يقارب 6 في المئة بضربة مزدوجة من تضييق السياسة النقدية والتقشّف المالي، الأمر الذي يرجح أن يسبّب مزيداً من التدهور الاقتصادي. وفي الفيليبين، أدت الزيادات في أسعار الغذاء والوقود إلى ارتفاع التضخم الذي أثّر بشكل مباشر على الفقراء.
أما في الهند، فالارتفاع في التضخم له سبب محلي. وهو ناتج إلى حد كبير من استراتيجية الحكومة للسعي لاستخراج المزيد من الإيرادات من خلال الضرائب على المشتقات النفطية، لدرجة أن هذه الضرائب تمثل الآن ما يقرب من ثلثي سعر التجزئة في البنزين والمازوت. ونظراً لأن الطاقة تدخل مباشرة ضمن أسباب التأثير في أسعار جميع المنتجات الأخرى، فقد أدى ذلك إلى تضخم أسعار الاستهلاك بأكثر من 6 في المئة في بلد فيه أكبر عدد من الجياع في العالم، حيث يعاني الناس بالفعل من عدم توفّر الوظائف وانخفاض الأجور.
ثم أن هناك العواقب المؤسفة الأخرى لما يسمى بالتعافي الاقتصادي العالمي، الذي اقتصر إلى حدّ كبير على الولايات المتحدة وبعض الدول المتقدمة الأخرى والصين. فقد أدّى بالفعل إلى ارتفاع كبير في أسعار العديد من السلع الأساسية، وهذا ينعكس من خلال ارتفاع مؤشر أسعار المعادن العالمية بنسبة 80 في المئة على مدى 12 شهراً وارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 108 في المئة خلال الفترة نفسها. وإذا استمرت هذه الارتفاعات، فقد تفيد مصدري السلع الأساسية في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وأماكن أخرى.
ويتمثل الجانب الأكثر إثارة للقلق، في تضخّم أسعار السلع، ومواصلة ارتفاعه لمدّة عام واحد، بحسب مؤشّر أسعار الغذاء العالمي، وذلك بنسبة 32 في المئة (بعدما بلغ ذروته إذ تربّع على نسبة 42 في المئة في شهر أيّار الماضي). وقدّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن الوباء قد ضاعف عدد الذين يعانون من الجوع الحادّ في العالم، وذلك حتى قبل أن يؤدّي ارتفاع الأسعار العالمية لسلع الغذاء، إلى جعل الغذاء الأساسي سلعة لا يمكن أن يتحمّل عدد كبير من الناس كلفتها. ويتواجد معظم هؤلاء الجوعى في العالم النامي، حيث تواجه حكوماته قيوداً متعددة على إنفاق المساعدات العامة.
وأخيراً، هناك قلق متجدد في الدول النامية بشأن تدفقات رأس المال، وكيف ستتفاعل أسواق الديون والسندات عندما يتحقق التشديد النقدي الحتمي في الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الأخرى في نهاية المطاف. ومن المعروف أن رأس المال متقلب في الأسواق المالية ويستجيب حتى لأصغر التغييرات في أسعار الفائدة وفي توفير السيولة في ما يسمى بالبلدان الآمنة. وعندما يندفع رأس المال للخروج من الأسواق النامية، فإنه يترك خلفه عملات آخذة في انهيار قيمتها، وأنظمة مصرفية متضررة، ومخاوف بشأن سداد الديون. وغالباً ما تضطر المصارف المركزية في مثل هذه البلدان إلى الاستجابة لوسائل المعالجة مثل رفع أسعار الفائدة أو استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي لدعم عملاتها، وبذلك يمكن أن تلحق المزيد من الضرر بآفاق الاقتصاد المحلّي.
وتماماً مثل مسألة التغيّر المناخي، التي لم تعد مشكلة مستقبلية بل مشكلة معاصرة، فإن التضخّم المصحوب بالركود قد أصبح واقعاً في بعض البلدان النامية. ومن المحتمل أن تكون عواقب هذا الأمر وخيمة، فمن المرجح أن تتبنى هذه الحكومات استراتيجيات للسيطرة على ارتفاع الأسعار، وهذه الاستراتيجيات قد تؤدي إلى تفاقم الركود الاقتصادي ومنع الانتعاش. وتماماً مثل فيروس كورونا، فإن الدمار الاقتصادي الذي يسببه هذا الأمر، لن يظل محصوراً فقط بالفقراء أو فقط في البلدان النامية، فالتداعيات السلبية ستنتشر حتماً إلى الاقتصادات المتقدمة أيضاً.
ولقد أدت بعض آثار العولمة المالية إلى تراجع سياسي كبير في دول الشمال. ومع الانتعاش غير المتكافئ، الذي يولّد المزيد من اللامساواة العالمية، قد لا نضطر إلى أن ننتظر كثيراً قبل أن يبدأ المزيد من الناس في العالم النامي في التشكيك في المزايا المفترضة للتكامل الاقتصادي العالمي.

* نشر هذا المقال على موقع networkideas.org 18 آب 2021

اقرأ دراسة «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفيّة السياسيّة والاقتصاد غير المُنتج» هنا.