منذ عام 2012 تصدر إدارة الإحصاء المركزي مؤشّر تضخّم الأسعار بالاستناد إلى سلّة استهلاك للأسرة لا تراعي التحوّلات التي طرأت على أنماط الاستهلاك. فالأزمة السورية انعكست سلباً على لبنان، ثم انفجرت أزمة نقدية - مالية - مصرفية - اقتصادية غير مسبوقة تزامنت مع جائحة كورونا. ثلاث أزمات كبيرة كانت أكثر من كافية لإحداث تغيير ملحوظ في سلوك الأسر وموازناتها، ما يستوجب تعديلاً في سلّة الاستهلاك ليعكس الواقع الفعلي في تضخّم الأسعار ويُبنى عليه سياسات نقدية - مالية واقتصادية تنسجم مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي.

يُستخدم مؤشّر الأسعار القياسية للاستهلاك (CPI) لقياس تطوّر مستويات أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد. ويتم احتسابه استناداً إلى معدّل أسعار سلّة من السلع والخدمات فيها مئات أصناف السلع والخدمات. كل مجموعة متجانسة من السلع والخدمات، تُصنّف في بند. ولكل بند وزن يعكس حصّته من مداخيل الأسرة. فالأسر توزّع مداخيلها على نفقات الغذاء والملابس والصحة والتعليم والترفيه والنقل والسكن وسواها تبعاً لنمط استهلاكها، أي أن هذا التوزيع ليس ثابتاً، بل يتغيّر تبعاً لمستويات الدخل، والأوضاع الاقتصادية العامة. الأسر تكيّف دخلها مع التطورات التي تطرأ على الاقتصاد. عندما يزيد الدخل، تتجه الأسر إلى توزيع الزيادة على نفقات أقلّ أولوية. وبالعكس، عندما تنفجر الأزمات، تصبح الأسر مجبرة على تخصيص مبالغ أكبر للإنفاق على الأمور الأساسية الحياتية، مثل الغذاء والصحة والسكن. ويأتي ذلك على حساب نفقات أخرى كانت تخصصها للترفيه والاستجمام وسواهما مما تعتبره أقلّ أولوية. وفي العمق أكثر، فإنه في أوقات الأزمات توزّع الأسر دخلها بطريقة أكثر تحفظاً وتفاضل بين أصناف البند الواحد.

37.6%

هي حصة السكن من السلة الإستهلاكية في كندا خلال جائحة كورونا بعد ان كانت 27.7% قبل ذلك


وبالتالي فإن حصّة هذه البنود تتغيّر بحسب الظروف. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الأسر تنفق ربع مداخيلها على الغذاء، فإن تضخّم الأسعار يفرض عليها زيادة قيمة ما تخصّصه للإنفاق على الغذاء على حساب تقليص نفقات أخرى. دخل الأسر في حالة كهذه، لا يعود كافياً لمواصلة نمط الاستهلاك السابق. بهذا المعنى، يصبح الفرق كبيراً بين عامَي 2012 و2021 في ميزان استهلاك الأسر، وتصبح سلّة الاستهلاك السابقة غير معبّرة بشكل دقيق عن سلّة الاستهلاك الفعلية.
محلياً، تعتمد إدارة الإحصاء المركزي على إحصاء أجرته في عام 2012 لتحديد موازنة الأسر ووزن كل بند من بنود النفقات فيها. كما أنها تأخذ أسعار عام 2012 كأسعار مرجعيّة للسلع والخدمات، أي أن نسبة التغيّر في أسعار السلع تُحتسب على أساس أسعار عام 2012. غير أنه بنتيجة التحولات التي طرأت على الاقتصاد وأنماط الاستهلاك، بات هذا الإحصاء يعبّر بشكل خاطئ عن سلّة استهلاك الأسرة، وبالتالي تصبح معدلات التضخّم غير دقيقة. فالأزمات الثلاث المذكورة (الحرب السورية، الانهيار المالي والنقدي والمصرفي، وجائحة كورونا)، كان لها أثر واسع على أنماط استهلاك الأسر.
هذا ما أشار إليه مارشال رينسدورف في ورقة عمل بحثية نشرها صندوق النقد الدولي بعنوان «كوفيد-19 ومؤشر أسعار المستهلك: هل يُقلّل من تقدير التضخم؟». يقول رينسدورف، إن نمط الاستهلاك خلال جائحة كوفيد-19 اختلف بشكل ملحوظ عن نمط الاستهلاك الذي كان سائداً قبل الجائحة. كلامه يثير الشكوك في موضوعية وواقعية معدلات التضخم في لبنان. فبحسب رينسدورف، إذا لم يراع التغيّر الطارئ على أنماط الاستهلاك، فإنه يؤدي إلى احتساب معدّلات التضخّم بشكل غير دقيق وينتج منه معدّلات تضخّم أقل من الحقيقيّة التي لا يمكن التوصل إليها بشكل دقيق إلا بعد تعديل أوزان بنود الاستهلاك في موازنة الأسر.
ليست هناك ترجمة عملية أدقّ لما قاله رينسدورف، عما حصل في لبنان. فبما أن موازنة الأسرة قديمة جداً وطرأت عليها تحوّلات كبيرة، فإن مؤشر التضخّم الصادر عن الإحصاء المركزي قد يكون غير دقيق. ومن أبرز المتغيرات التي طرأت على النمط الاستهلاكي في لبنان هي على النحو الآتي:
- منذ عام 2012 حتى عام 2019 تضرّر الاقتصاد اللبناني بشكل كبير بسبب الأحداث السورية. ليست هناك إحصاءات محدّدة ومؤكدة عن البطالة، ولكن الأكيد أنها ازدادت بشكل كبير منذ ذلك الوقت إلى اليوم. آخر إحصاء أجرته الدولية للمعلومات يشير إلى أن معدل البطالة بلغ في نهاية 2019 نحو 25%. البطالة لها تأثير كبير ومباشر على القدرة الاستهلاكية، وكلما ارتفعت معدلاتها في المجتمع، كان التغيير في أنماط الاستهلاك أوسع. كذلك، انعكست الحرب السورية إغلاقاً على المعبر البرّي للصادرات اللبنانية التي تذهب إلى الأسواق الإقليمية مثل العراق والدول الخليجية ومنها إلى الداخل اللبناني. أثّر هذا الأمر على أسعار السلع الصادرة والمستوردة من وإلى تلك البلدان، وهو ما ينعكس بدوره على الطلب الاستهلاكي العام محلياً. وهذا أيضاً ترك بصمته على التثقيلات التي لم تتم إعادة إحصائها طوال تلك الفترة.

بنتيجة التحولات التي طرأت على الاقتصاد وأنماط الاستهلاك، بات مؤشر تضخم الأسعار الذي تُصدره إدارة الإحصاء المركزي يعبّر بشكل خاطئ عن سلّة استهلاك الأسرة


- منذ بداية الأزمة المالية - النقدية - المصرفية - الاقتصادية، التي ضربت لبنان في أواخر عام 2019 حتى يومنا هذا، خسرت العملة المحليّة نحو 87% من قيمتها، في سوق الصرف، أمام الدولار الأميركي. كان لهذا التراجع أثر كبير على أسعار السلع في بلد يعتمد بصورة واسعة على الاستيراد لتأمين حاجاته الاستهلاكية الأساسية. وفي المقابل بقيت الأجور في القطاعين العام والخاص على حالها وتدهورت مداخيل الأسر باستثناء الأجور المقوّمة بالدولار. هذا الأمر أوصل معدّل الفقر في البلد إلى ما يزيد عن نسبة 50% من اللبنانيين وفق تقديرات منظمات دولية، علماً بأن هذه الأرقام قابلة للزيادة. وهذا يعني أن هناك عدداً كبيراً من الأسر اللبنانية انزلقت إلى ما دون خط الفقر، ما يفرض تعديلات موازية في أنماط استهلاك هذه الأسر. كما أن الأسر الأخرى بات عليها أن تتأقلم مع أنماط استهلاك مختلفة أيضاً. فمثلاً الأسرة التي أصبحت مضطرة إلى إنفاق 50% من دخلها على الغذاء، ستضطر إلى تقليل إنفاقها على أمور أخرى، أقل أهميّة رغم أنها كانت قبل ذلك جزءاً أساسياً من سلّتها الاستهلاكية.
كما هو الحال في كل أنحاء العالم، فرضت جائحة كوفيد-19 تغيّراً كبيراً في نمط حياة اللبنانيين. فالإقفالات المتتالية التي شهدها البلد، وإجراءات التباعد الاجتماعي والبقاء في المنازل، أثّرت بشكل ملحوظ على المبادلات الاجتماعية والعادات الاستهلاكية في المجتمع. ومنها مثلاً الخروج إلى المطاعم والمقاهي وأماكن السهر، كل ذلك لم يعد كما كان قائماً قبل الجائحة. كما أن الاستهلاك المتعلق بخدمات النقل والتنقّل تأثر أيضاً، بسبب النمط الجديد الذي فرضته الجائحة لجهة العمل من المنزل، الذي اعتمدته الكثير من المؤسسات والشركات. بالإضافة إلى ذلك، تحوّل العديد من مستهلكي تجارة التجزئة نحو التبضّع والتسوق إلكترونياً عبر الإنترنت.
كل هذه الأمور فرضتها الجائحة على المستهلك اللبناني، وهذا ما أدّى حكماً إلى التغيّر في التثقيلات الحقيقية في استهلاك السلع والخدمات. رغم ذلك، فإن التغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية وعلى الحالة الاقتصادية والأزمة المالية في لبنان، وما رافقها من تأثير على نمط الحياة والاستهلاك، صارت حالة شمولية أوسع بكثير من أن يحيط بها تقرير أو حتى بحث.



تعديل سلّة الاستهلاك في أميركا وكندا
تغيّرت تثقيلات سلّة الاستهلاك في كندا خلال جائحة كوفيد-19 عن تثقيلات ما قبل الجائحة. فقد انخفضت حصّة استهلاك النقل من السلّة الاستهلاكية من 19% إلى 12.14% في نيسان 2020، وهو الأمر الذي فرضته قيود الإقفال على حركة المستهلكين. كما انخفضت حصّة الترفيه والتعليم من الاستهلاك من 11.62% إلى 5.18%. ومن ناحية أخرى ارتفعت حصص كل من الغذاء والمسكن وغيرهما من السلّة الاستهلاكية.
كذلك الأمر في أميركا حيث انخفضت أيضاً حصّة كل من النقل والترفيه من السلّة الاستهلاكية من 15.7% إلى 6.3% ومن 5.8% إلى 2.2% تباعاً. وانخفضت أيضاً حصّة الخدمات الطبيّة من 8.8% إلى 5.6%. في المقابل ارتفعت حصّة كل من السّكن والغذاء من 7.3% إلى 11.3% ومن 42.1% إلى 55.8% توالياً.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام