الطبقات الميسورة تستفيد من الدعم أكثر. هذه الخلاصة التي يتم التركيز عليها في الدراسات الصادرة عن المؤسّسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين بشأن الدعم الذي يُنفق على الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يتم إثبات هذا الأمر باعتباره سبباً أساسياً لعجز موازنات الحكومات، ولتسويق آلية دعم بديلة تتضمّن تسديد دفعات نقدية مباشرة للفقراء. خلاصة كهذه هي صحيحة نسبياً، لكنها تركّز على جانب واحد يتعلق بالإنفاق الحكومي والمؤشرات المالية وتغفل النتائج الاقتصادية لرفع الدعم عن الطاقة، سواء الدعم للمحروقات المستخدمة في نقل الأفراد والبضائع، أو المستخدم في الإنتاج الصناعي والزراعي. إجراءات كهذه تسميها هذه المؤسسات الدولية «إصلاحات»، إلا أنها تتجاهل التداعيات التي قد تكون أكثر إيلاماً من استمرار الدعم. فبمجرّد رفع الدعم، سترتفع معدلات التضخّم وستتقلّص القدرة التنافسية الخارجية للمنتجات المحلية.

إيران قد لا تكون مثالاً نموذجياً في حالة وقف دعم المحروقات والطاقة بالمقارنة مع لبنان، لأنها بلد منتج للنفط. لكن السلوك الإيراني في التعامل مع هذه المسألة يستحق التوقف عنده. فعندما قرّرت الدولة، وقف الدعم على مراحل متدرجة واستبداله بالدفعات النقدية من أجل برنامج مع صندوق النقد الدولي، واجهت تضخّماً محفّزاً بالعقوبات الأميركية عليها. فقد أقرّت الحكومة الإيرانية برنامج تحويلات مالية إلى الأسر كان حجمها كافياً لانتشال كل مواطن إيراني من تحت خط الفقر، وخصّصت جزءاً من الوفر المحقّق الناتج من رفع الدعم، لدعم المشاريع والصناعات المنتجة التي تعتمد على الطاقة بشكل أساسي، ثم أقرّت سياسة إسكانية، فضلاً عن البدائل المتوافرة في قطاع النقل المشترك. المشكلة التي واجهت إيران، أن الدعم كان عبارة عن موارد محلية، وبالتالي فإن التقديمات النقدية للأسر، تتطلّب بيع النفط أو طباعة النقد. ما حصل لاحقاً، جزئياً بسبب العقوبات، أن التضخّم بلغ 26%، ما أجبر الحكومة الإيرانية على إطفاء المرحلة الثانية من رفع الدعم. تفسير صندوق النقد الدولي لما حصل ورد في ورقة بعنوان «دروس من إصلاحات دعم الطاقة». يقول الصندوق، إن الارتفاع الكبير في التضخّم سببه التحويلات الماليّة الضخمة للأسر، غير أن الوقائع تشير إلى أن اضطرار الحكومة الإيرانية لطباعة النقود، أو ما يسميه صندوق النقد «السياسات النقدية التوسعية» لتمويل برنامج التحويلات، جاء تعويضاً عن تقلص قدرته على بيع النفط بسبب العقوبات الأميركية. في النهاية أدّى الأمر إلى تدهور سعر صرف العملة المحليّة وارتفاع معدلات التضخّم.
بمجرّد رفع الدعم سترتفع معدلات التضخّم وستتقلّص القدرة التنافسية الخارجية للمنتجات المحلية


ارتفاع الأسعار ظهر أيضاً في اليمن ومصر. هاتان الدولتان، باختلاف ظروفهما، عمدتا إلى وقف الدعم بشكل تدريجي، إلا أنه في المراحل الأولى للتطبيق سجّل البلدان ارتفاعات كبيرة في أسعار المحروقات. في الجولة الأولى في اليمن، تضاعف سعر المحروقات خلال خمس سنوات، وفي الجولة الثانية بقيت فاتورة دعم المحروقات مرتفعة نسبياً مشكّلة ما نسبته 10% من الناتج المحلي في عام 2012، تبعاً لصندوق النقد الدولي. أما في مصر فقد سجّلت أسعار المحروقات ست قفزات خلال السنوات الخمس التالية على رفع الدعم، وبلغ الارتفاع التراكمي للأسعار في تلك الفترة 160%، ما أدّى إلى ارتفاع في معدّلات التضخّم بمتوسّط نسبته 15.6% سنوياً (وصل التضخّم إلى 29% في عام 2017). الأسوأ من ذلك، أن فاتورة دعم الطاقة لم تنخفض بل ارتفعت من 139.4 مليار جنيه في السنة المالية 2013-2014، إلى 172 مليار جنيه في السنة 2017-2018. والأمر نفسه تكرّر في تونس حيث ارتفع معدّل التضخّم بسبب إجراءات رفع الدعم من دون أن يُسجّل تحسنٌ ملموس في عجز الماليّة العامّة الذي كان 5.5% نسبة إلى الناتج المحلّي عام 2012 وبلغ 4.8% في عام 2015. أما في الأردن فقد زاد التضخّم بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وكلفة النقل، ونجم عن ذلك ارتفاع كلفة الاستثمار في مجال الطاقة النظيفة البديلة إلى 2.5 مليار دولار بين عامَي 2012 و2016، بحسب موقع greentechmedia.
لم يكن التضخّم هو الوجه الوحيد للظواهر الاقتصادية الناشئة من رفع الدعم. ففي اليمن، أسهم الأمر في تزايد النشاط الاحتكاري لاستيراد وبيع المحروقات، ولا سيما أن الدولة اعتمدت تحديد سعرين للمحروقات كوسيلة لرفع الدعم جزئياً وإبقائه مقبولاً للأسر الفقيرة. لكنّ المحتكرين وجدوا طريقة لاستغلال الأمر وجني الأرباح السهلة والسريعة من خلال اللعب على الفرق بين السعرين. كذلك حفّز هذا الأمر تهريب كميات مدعومة، ما أسهم في بقاء فاتورة الدعم مرتفعة بسبب عدم انخفاض الطلب على هذه السلع كما هو متوقّع.
ولم تنجُ مصر من التداعيات البيئية لرفع الدعم. فقد اتجهت المصانع نحو مصادر طاقة أقلّ كلفة بعد رفع الدعم عن الكهرباء. ففيما أدّى رفع الدعم إلى خفض الاستهلاك السكني للكهرباء قليلاً بين عامَي 2014 و2018 من 43.2% من الاستهلاك العام إلى 42.3%، إلا أنه في المقابل ارتفعت حصّة القطاع الصناعي من استهلاك الكهرباء من 26% إلى 27.4% بحسب أرقام وزارة الطاقة المصرية. وبحسب دراسة أعدها هيكي مينهاردت عن سياسات البنك الدولي في مصر وتحفيزها لخفض انبعاثات الكاربون، اتجهت مصانع الإسمنت في مصر إلى مصادر للطاقة مثل الفحم والفيول بسبب كلفتهما المنخفضة نسبةً إلى كلفة الغاز.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام