استهداف نظام تقاعد الموظّفين في القطاع العام ليس مستجدّاً أو مرتبطاً ببرنامج «التقشّف المالي» الحالي، بل إن تخفيض معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة وتقليص عدد المستفيدين منها وإلغاء التعويضات الإضافية والاستثنائية (...) كانت دائماً على جدول أعمال ما يُسمّى «الهيئات الاقتصادية» والاقتصاديين الليبراليين وخبراء المنظّمات المالية الدولية، ولا سيّما صندوق النقد الدولي. لكن الضغوط التي مارسها هؤلاء ظلت طوال الفترة الماضية مغلّفة بإقرارين رئيسين: الأوّل، أن المشكلة ليست في نظام معاشات التقاعد نفسه، بل في «سخائه»، وفق تعبيرهم، وفي إدارته وطرق تمويله وارتفاع كلفته السنوية باطّراد. والثاني، أن نظام تعويضات نهاية الخدمة في القطاع الخاص مجحف وغير كفوء ولا يوفّر الحدّ الأدنى من الحماية للمتقاعدين، وبالتالي يجب أن يُستبدَل به نظام للتقاعد والحماية الاجتماعية على غرار المعمول به في القطاع العام. بمعنى ما، ظلت هذه الضغوط حتى الآن تخفي مآربها الحقيقية خلف مزاعم الحاجة إلى «إصلاح» متزامن لنظامي التقاعد في القطاعين العام والخاص. ففي مقابل تخفيض المكاسب في النظام الأوّل، يُستبدَل بالنظام الثاني آخر قريب من الأوّل يقوم على «المعاش التقاعدي» و«الضمان الصحّي» بعد التقاعد.لنتجاوز مسألة مهمّة، أن هذه المزاعم «الإصلاحية» لم تُترجَم في أي ظرف من الظروف على مدى 56 عاماً مضت، منذ صدور قانون الضمان الاجتماعي في عام 1963، الذي نصّ (في الباب الرابع - المادة 49) على إنشاء صندوق لتعويض نهاية الخدمة المموّل بالاشتراكات كمرحلة انتقالية مؤقّتة «إلى أن يُسنَّ تشريع ضمان الشيخوخة». ولنتجاوز أيضاً مسألة أخرى، هي أن آخر مشروع لضمان الشيخوخة (مشروع قانون التقاعد والحماية الاجتماعية) أحيل على مجلس النواب منذ عام 2004، وهو منذ 16 عاماً يتنقل بين اللجان النيابية والبعثات الاستشارية والخبراء الإكتواريين ويخضع لتعديلات مُبرمجة تهدف إلى تقليص أثره التوزيعي ورمي كلفته على عاتق المستفيدين وحدهم، من خلال «رسملة» النظام المُقترح وربط قيمة المعاش بعد التقاعد بقيمة الاشتراكات التي يسدِّدها المستفيد طوال عمله مع عائد توظيفها في السوق المالية، مع ما ينطوي عليه ذلك من تخفيض الحدّ الأدنى للمعاش التقاعدي وتعريض النظام برمّته للمخاطر وتحويله إلى منتج مالي بدلاً من أن يكون حقّاً اجتماعياً، علماً أن المشروع بات مقتصراً على «المعاش التقاعدي» من دون «الضمان الصحّي» بعد التقاعد، بحجّة صدور القانون رقم 27 في عام 2017، الذي ينظّم استفادة المضمونين المتقاعدين من تقديمات فرع ضمان المرض والأمومة في صندوق الضمان الاجتماعي، وصدور القانون 248 في عام 2000، الذي أنشأ نظام الضمان الاختياري.
لنتجاوز هاتين المسألتين، لا لأنّهما غير مهمّتين، بل لأن ما طرحه وزير الخارجية جبران باسيل في أولى جلسات مجلس الوزراء لمناقشة مشروع قانون الموازنة العامّة لعام 2020 يشكّل بداية تحوّل كبير في استهداف نظام التقاعد من مزاعم «إصلاحه» إلى إطاحته و«تشليح» الطبقة العاملة المزيد من حصّتها في الدخل. فقد قدّم باسيل ورقة باسم «تكتّل لبنان القوي» تدعو صراحة إلى «تحويل المعاش التقاعدي لجميع موظّفي القطاع العام الجدد إلى تعويض نهاية خدمة»، أي العمل على التخلّص تدريجاً من نظام معاشات التقاعد في القطاع العام والانتقال إلى نظام تعويضات نهاية الخدمة على غرار القطاع الخاص. وهذا لا يضرب مكاسب العاملين في القطاع العام فحسب، بل يقوّض آمال العاملين في القطاع الخاص بتحسين شروط تقاعدهم وظروفه. فعندما تنتقل الدولة إلى نظام تعويضات نهاية الخدمة وتتصرّف كصاحبة عمل فقط، تضع الطبقة العاملة برمّتها في موقع ضعيف وهشّ لا يسمح لها بإحراز أي مكاسب، بل بالعكس يجعلها تتكبّد المزيد من الخسائر.
لا تقتصر ورقة باسيل «الإنقاذية» على هذا التحوّل الخطير في استهداف نظام التقاعد، إلّا أنه مثّل أكثر طروحاتها ابتذالاً، ولا سيّما أنها تضعه في إطار «قاعدة الشروط المسبقة» لإبرام «اتفاق بين الحكومة اللبنانية والمصارف اللبنانية بمشاركة مصرف لبنان لتخفيض كلفة الدَّيْن العام». فمن دون تنفيذ هذه الشروط لن «تقوم المصارف بالاكتتاب بسندات خزينة بفوائد مخفّضة جداً». بهذا المعنى، يشكّل طرح إلغاء المعاش التقاعدي في القطاع العام بدلاً من تعميمه على القطاع الخاص ذروة المزايدة بين الكتل النيابية على تمثيل المصالح المالية وتغليبها على مصالح العمّال في القطاعين العام والخاص معاً، كذلك فإنه يمعن في الخضوع لشروط «الأوليغارشية» المالية التي تسعى لكسب المزيد من الأرباح من الأزمة التي سبّبتها بدلاً من تحميلها قسطاً من الكلفة المترتبة عليها.
يصف وزير المال علي حسن خليل في فذلكته لمشروع قانون موازنة عام 2020 نظام التقاعد في لبنان بأنه «سخي للغاية»، وأصبح «غير مستدام»، وبحاجة إلى «إصلاح تدريجي قبل ارتفاع التزاماته بشكل تصعب السيطرة عليه». لقد حشد ممثّل «كتلة التنمية والتحرير» كلّ المفردات التحريضية ضدّ نظام التقاعد في القطاع العام لتبرير التقيّد بالشروط المسبقة نفسها التي تحدّثت عنها ورقة «تكتّل لبنان القوي»، وعلى الرغم من أنه لم يتبنَّ دعوتها إلى استبدال المعاش التقاعدي بتعويض نهاية الخدمة، إلّا أنه يقترح على الائتلاف الحاكم طريقة أخرى لقضم نظام التقاعد تدريجاً، وهذا ما يجري تطبيقه بالفعل.
فبعد التعديلات التي أُدخلت على نظام التقاعد وشروطه في قانون الموازنة لعام 2019، يطرح وزير المال المزيد منها في مشروع قانون موازنة عام 2020. ففي الفذلكة التي قدّمها إلى مجلس الوزراء في الأسبوع الماضي، يقترح رفع نسبة الحسومات التقاعدية مجدّداً من 6% إلى 10%، واعتماد متوسّط الأجر في كلّ سنوات الخدمة في احتساب المعاش التقاعدي وليس أجر الشهر الأخير قبل التقاعد وفق النظام القائم، وكذلك إعادة النظر بالتدبير رقم 3 في السلك العسكري (الجيش والأجهزة الأمنية) الذي يمنح المتقاعدين تعويضاً يوازي أجور ثلاثة أشهر عن كلّ سنة خدمة، وإعادة النظر باستفادة ورثة المتقاعدين من المعاش التقاعدي، بالإضافة إلى رفع السنّ القانونية للتقاعد، وتوسيع قاعدة الأجر التي تطبّق عليها الحسومات التقاعدية، وربط المعاشات التقاعدية بزيادات غلاء المعيشة على غرار الأجور في القطاع الخاص بدلاً من ربطها بسلسلة الرتب والرواتب.
لقد كشف وزير المال عن برنامج «إصلاح تدريجي شامل للنظام التقاعدي في لبنان»، عملت وزارة المال على إعداده مع البنك الدولي ورفعه إلى مجلس الوزراء. وتوقّع أن يبدأ تأثير هذا «الإصلاح» بعجز الموازنة اعتباراً من عام 2021. ووفق السيناريو الذي عرضه في الفذلكة، يهدف هذا البرنامج إلى تخفيض أكثر من 342 مليار ليرة من الكلفة المتوقّعة في عام 2021 و811 مليار ليرة في عام 2022. المفارقة أن هذا القضم التدريجي في مدفوعات نظام التقاعد ستقابله زيادة في مدفوعات الفائدة لخدمة الدَّيْن الحكومي بقيمة 2615 مليار ليرة بين عامي 2020 و2022، وستبلغ مدفوعات الفائدة 10952 مليار ليرة وستستأثر بأكثر من 45.5% من مجمل الإنفاق العام. ما يعني أن تخفيض معاشات التقاعد يهدف إلى تمويل رفع كلفة الفوائد، لا إلى تخفيضها، على عكس كلّ المزاعم، سواء في ورقة «تكتّل لبنان القوي» أو في فذلكة وزير المال أو برنامج التقشّف الذي توافقت أطراف الائتلاف الحكومي عليه وأعلنت التزامها تنفيذه في مناسبات عدّة. فهل تستحق هذه النتيجة كلّ التضحية المطلوبة؟