تتصاعد حدّة الأزمة الاقتصادية في لبنان وتتسارع وتيرتها باطراد، وكل المؤشّرات المتداولة تُنبِئ بأن الأسوأ لم يأتِ بعد. يتوقّع صندوق النقد الدولي ألّا يسجّل الناتج المحلّي الإجمالي أي نموّ حقيقي لسنوات عدّة مقبلة، وتتراوح تقديراته لمعدّل النمو بين 0.1% و0.3% فقط في هذا العام والعام المقبل. وأظهر الاستطلاع الفصلي لثقة المستهلك، الذي يجريه بنك بيبلوس والجامعة الأميركية في بيروت، أن أكثر من 62% من الأسر، التي شملها الاستطلاع في الفصل الثاني من العام الجاري، تتوقّع المزيد من التدهور في أوضاعها المالية في الأشهر الستة المقبلة، ويتوقّع 69% من المستطلعين أن تسجّل «بيئة الأعمال» المزيد من التدهور. في المقابل، 9% فقط يتوقّعون أن تتحسّن أوضاعهم. وأظهر مؤشّر «مديري المشتريات» الشهري، الصادر عن بنك لبنان والمهجر في شهر تموز/ يوليو، استمرار التراجع في «ظروف العمل» لدى شركات القطاع الخاص للعام السادس على التوالي، ففي حين تتوقّع 22% من الشركات تخفيض إنتاجها في العام المقبل، فإن أي شركة لا تتوقّع أي زيادة في إنتاجها. ويبيّن مؤشّر «الطلبيات الجديدة» الفرعي تراجعاً شهرياً مستمرّاً في المبيعات منذ حزيران/ يونيو 2013، ويسجّل مؤشِّرا «التوظيف» و«الأجور» جموداً منذ فترة طويلة عند حافة الانكماش، فيما يسجّل مؤشّر «كلفة الإنتاج» ارتفاعاً مستمرّاً للشهر الرابع على التوالي، على الرغم من انخفاض معدّل التضخّم بالمقارنة مع العام الماضي.في ظلّ هذه المؤشّرات القاتمة والمتراكمة، انضمت الحكومة إلى مصرف لبنان في تطبيق السياسات الانكماشية بدلاً من دعم الطلب والإنتاج والعمالة. ووفق الأرقام التي نشرتها وزارة المال عن نتائج المالية العامّة حتى نيسان/ أبريل من هذا العام، انخفض الإنفاق الفعلي بقيمة تتجاوز 1300 مليار ليرة في أربعة أشهر فقط، أو ما نسبته 16% بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. جرى هذا التخفيض عبر مراكمة المتأخّرات والامتناع عن صرف الكثير من الاعتمادات قبل البدء بتنفيذ الموازنة التقشّفية، التي صادق عليها البرلمان أخيراً ولم تُنشر في الجريدة الرسمية حتّى الآن. وعلى الرغم من تشكيك بعثة صندوق النقد الدولي الأخيرة بقدرة الحكومة على الالتزام بتخفيض العجز المالي من 11% من مجمل الناتج المحلّي في عام 2018 إلى 7.6% في هذا العام، إلّا أنها توقّعت انخفاضه بنسبة 1.35% من مجمل الناتج المحلّي، أي بنحو 800 مليون دولار، واعتبرت أن هذا القدر من التقشّف لن يكون كافياً لتجاوز مخاطر سعر الصرف والتوقّف عن الدفع، وبالتالي طالبت الحكومة باعتماد سياسة مالية متماهية أكثر مع السياسة النقدية، أو بمعنى أوضح، تحويل السياسة المالية للدولة إلى مجرّد أداة نقدية، بهدف مساعدة مصرف لبنان على تأدية مهمّته في الحفاظ على سعر الليرة الثابت، في ظلّ «الظروف العصيبة». وهناك وصفة وحيدة مطروحة، سواء من قِبَل الحكومة أو من قِبَل خبراء صندوق النقد، وهي لن تزيد الوضع السيئ إلّا سوءاً، كونها ترمي إلى تخفيض القدرة الشرائية للمقيمين بدلاً من رفعها، للحدّ من الطلب المتزايد على الدولار والتمويل وعرض النقود أو طبع العملة ووقف نزف ميزان المدفوعات المتمادي منذ عام 2011. وتتضمّن هذه الوصفة إجراءات «قمعية» عبر تقليص الإنفاق العام والخصخصة وتجميد الأجور وزيادة الضرائب على الاستهلاك ورفع أسعار الفوائد... وكلّها عوامل تؤدّي إلى كبح النشاط الاقتصادي وزيادة التفاوتات الاجتماعية واللامساواة في توزيع الثروة والدخل، وتقوم بنقل الخسائر أو المخاطر من القطاع المالي، بحجّة المحافظة على المصارف وخدمة الودائع وجذب التدفّقات الخارجية بالعملات الصعبة، إلى المجتمع أو الأسر المقيمة، بحجّة تقاسم الكلفة المترتبة على مساعي منع انهيار الجهاز المصرفي تحت وطأة الضغوط.
تشير التقديرات إلى أن عجز الحساب الجاري (ميزان تعاملات المقيمين مع الخارج) سيبلغ هذا العام أكثر من 27% من مجمل الناتج المحلّي، أي أن الاقتصاد اللبناني بحاجة إلى توفير 16 مليار دولار إضافية في العام الجاري، فوق الدولارات التي يحصل عليها من الخارج، وذلك للإيفاء بالتزاماته بالعملات الأجنبية لمصلحة غير المقيمين، وهي بمعظمها ناتجة من عجز الميزان التجاري (الفارق بين صادرات السلع والخدمات ومستورداتها) ومدفوعات الفائدة على الدَّيْن الخارجي، ولا سيّما ودائع غير المقيمين. هذا العجز ليس مستجدّاً أو طارئاً، بل مثّل السمة الرئيسة للنموذج الاقتصادي اللبناني في ربع القرن الأخير، أقلّه منذ توقف الحرب ومرحلة إعادة الإعمار. ما استجد بالفعل هو أن الطريقة التي جرى اعتمادها لتمويل هذا العجز البنيوي لم تعد صالحة، نظراً إلى تغيّر ظروف الاقتصاد العالمي والإقليمي وتراجع جاذبية لبنان وتنافسيته في أسواق رأس المال، نتيجة الارتفاع المتواصل لسعر الصرف الفعلي الحقيقي، أي سعر صرف الليرة الفعلي لا الاسمي قياساً إلى الأسعار النسبية في لبنان وأهمّ الشركاء التجاريين. ما يعني ارتفاع كلفة الإنتاج وضمور الاستثمارات وتدهور الصادرات.
في حين تبقى فاتورة الاستيراد مرتفعة، وتسجّل الصادرات المزيد من التراجع بسبب ضعف عوامل الإنتاج المحلّية، وينخفض صافي تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، فيما يواصل الدَّيْن العام الحكومي ارتفاعه (155% من مجمل الناتج المحلّي في هذا العام)، وباتت مدفوعات الفائدة المترتبة عليه تستنزف نحو 9% من الدخل القومي. في ظلّ هذا الوضع، توقّفت تدفّقات الودائع الداخلة فعلياً إلى لبنان، التي تعدّ مصدراً رئيساً لتمويل الاستهلاك عبر الدَّيْن بدلاً من دخل العمل، وفيما كان معدّل نموّ الودائع في عام 2018 هو الأدنى منذ عام 2005، سجّلت الودائع انخفاضاً بالقيمة المطلقة في الأشهر الماضية. وسجّل ميزان المدفوعات عجزاً تراكمياً على مدى 12 شهراً حتّى أيار/ مايو الماضي بلغت قيمته 10.4 مليارات دولار، ما دفع البنك المركزي إلى تمويل هذا العجز عبر الودائع التي توظّفها المصارف لديه بفوائد مرتفعة. ووفق البيان الختامي لبعثة صندوق النقد، انخفضت الموجودات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بنحو 6 مليارات دولار منذ أوائل عام 2018، «على الرغم من استمرار العمليات النقدية التي يقوم بها».
أدّت السياسة النقدية الانكماشية إلى انخفاض القروض للقطاع الخاص وتوقّف شبه تامّ للقروض السكنية المدعومة. كما أدّت «الهندسات المالية» إلى دفع فوائد مرتفعة جدّاً للمودعين لتجديد ودائعهم وجذب ودائع جديدة بدلاً من الودائع الهاربة. وأدّى ارتفاع أسعار الفائدة على التسليفات في ظل الانكماش الاقتصادي إلى زيادة القروض المتعثّرة، وباتت القروض المشكوك بتحصيلها تساوي أكثر من 14% من مجمل القروض الممنوحة للشركات والأفراد. وشجّعت العمليّات النقدية التي يقوم بها مصرف لبنان على تركيز توظيفات المصارف في دَيْن الدولة، إذ بات 14% من أصول المصارف موظّفة في دَيْن الحكومة، و55% موظّفة في دَيْن مصرف لبنان، أي أن انكشاف المصارف الكلّي على الديون السيادية بات يشكّل 68.5% من أصول هذه المصارف، أو أكثر من 8 أضعاف رأس المال الأساسي.
كل هذه المؤشّرات، ويوجد غيرها كثير، تشير إلى درجة مخاطر مرتفعة جدّاً، تهدّد بانهيار القدرات الشرائية لفئات واسعة من المقيمين في لبنان، كما تهدّد المصارف والودائع، ولكن وصفة التقشّف والسياسات المالية والنقدية الانكماشية المطروحة في مواجهة هذه المخاطر تضعنا أمام المفاضلة الفظيعة: لكي ننقذ أرباح رأس المال علينا أن نضحّي بالمجتمع والاقتصاد ومصادر الدخل المُتاح. فهل حقّاً لا يوجد خيار آخر؟ ألا توجد طريقة لإنقاذ الجميع؟
(يتبع)