«إن الانكماش لا يخفّض الأجور بشكل أوتوماتيكي، بل عبر إحداث البطالة. إن هدف قلّة النقد هو السيطرة على انتعاش مقبل. الويل لمن يقودهم إيمانهم لأن يستعملوا قلّة النقد لزيادة حدّة الكساد»
جون ماينارد كينز


بعد مغادرة كريستين لاغارد صندوق النقد الدولي، تُطرح بعض الأسماء لخلافتها. الاسم الأكثر إثارة للجدل هو جيروين دايسلبلوم الذي كان وزير المال في هولندا ورئيس المجموعة الأوروبية خلال الأزمة اليونانية، والذي اتخذ مواقف متشدّدة، ومؤيّداً التقشّف الذي أنهى إمكانية أن تأخذ اليونان منحى آخر، وخصوصاً بعدما استسلمت حكومة سيريزا اليسارية. وقد قال وولفغانغ مونشاو، أحد المعلّقين على المشهد الأوروبي، عن ترشيح دايسلبلوم: «من غير المعقول أن وزراء مال الاتحاد الأوروبي يتداولون ترشيح جيروين دايسلبلوم لوظيفة لاغارد في صندوق النقد الدولي، فهو شريك في تحمّل المسؤولية عن أسوأ الأخطاء في السياسات الماكرو ــــ اقتصادية في أيامنا». طبعاً هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أن مواقف دايسلبلوم و«أسوأ الأخطاء» ليست بعيدة عن طروحات صندوق النقد الدولي في فترة بعد انهيار «بريتون وودز». فبعد هذا الانهيار، تحوّل الصندوق من مؤسّسة مُنَظِّمة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية السبعينيات إلى أقوى مؤسّسة على الصعيد العالمي امتدت سلطتها في بادئ الأمر إلى الدول النامية، ومن ثمّ إلى شرق أوروبا، ومن بعد أزمة 2008 إلى أوروبا الغربية، وهي عمدت، مع تعمّق الأزمات في العديد من البلدان، إلى فرض «شروط» قاسية عُرفت بشَرطية صندوق النقد الدولي أو الـIMF conditionality.

في البدء كان التضخّم
البداية كانت في عام 1971، حين فكّ نيكسون الدولار عن الذهب وأسقط معه نظام العملات الثابتة. ولكن ما كان يحصل، في الوقت نفسه، في الرأسمالية هو أهمّ من هذا القرار بالنسبة إلى مستقبل مؤسّسات «بريتون وودز». إذ بالتزامن مع تفكّك نظام العملات الثابتة، كان يتفكّك أيضاً النظام الكينزي ــــ الفوردي. في نهاية الستينيات، بدا واضحاً أن الحلقة الحميدة بين الأجور والأرباح بدأت بالانحلال، فالأجور استمرّت بالازدياد نتيجة قوّة النقابات العمّالية والعقود الجماعية، بينما حصل تباطؤ في نموّ الإنتاجية في الأنظمة الرأسمالية المتقدّمة، ما كسر العلاقة بين ازدياد الأجور وازدياد الأرباح، وأدّى أيضاً إلى ارتفاع معدّلات التضخّم. أيضاً، شهدت المرحلة الممتدّة بين 1971 ونهاية السبعينيات، تقلّبات اقتصادية وصدمات من جانب أسعار النفط في 1973 (المقاطعة العربية) و1979 (الثورة الإيرانية). كل ذلك أدّى إلى التراجع عن الكينزية والفوردية، ليس فقط من أجل محاربة التضخّم، بل بسبب تهديد هذه الديناميكيات للأرباح وللنظام الرأسمالي نفسه. فالكينزية التي أتت مُخَلِّصة في عام 1945 أصبحت خانقة أو قاتلة في السبعينيات.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

في خضم التضخّم، أتى الرئيس الأميركي جيمي كارتر ببول فولكر محافظاً للاحتياطي الفدرالي في تموز/ يوليو 1979، وبعد ذلك تحوّلت السياسة النقدية الأميركية إلى سياسة انكماشية لكمّية النقد المتوافر في الاقتصاد من دون مراعاة ما سيحصل للفوائد. كانت هذه خطّة فولكر التي أعلن عنها في تشرين الأول/ أكتوبر، من أجل إنهاء التضخّم الذي وصل إلى 9% في عام 1979. وقد أدّت تلك السياسة إلى أسوأ ركود في الولايات المتّحدة منذ الكساد العظيم، وإن كان قصير المدى، إلّا أنه كان مكلفاً من حيث خسارة الناتج في أميركا ووصول البطالة إلى 11% في عام 1982. في الوقت نفسه، كانت السياسة ناجحة في إنهاء التضخّم. لكنها أيضاً كانت الطلقة الأساسية في سياسات متكاملة معادية للكينزية تبلورت في بريطانيا بوصول ثاتشر إلى السلطة في عام 1979، وفي الولايات المتّحدة بانتخاب رونالد ريغان بعد شهر من إعلان فولكر، أي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979.
المهمّ بالنسبة إلى تاريخ الصندوق، أنه خلال عملية محاربة التضخّم وصل معدّل الفائدة الفدرالي إلى 20% في نهاية 1980 (اليوم يبلغ 2.5 %)، ما أدى إلى ردّة فعل قوية داخل الولايات المتّحدة ضدّ سياسات فولكر حتّى من بعض أجنحة اليمين. يقول بيل ميدلي في تأريخ لذلك الإعلان «المزارعون اعتصموا أمام مقرّ الاحتياطي الفدرالي. وتجّار السيّارات الذين تأثّروا بشكل كبير بالفوائد العالية، بعثوا بتوابيت مليئة بمفاتيح السيّارات غير المبيعة. والكثير من الناس بعثوا برسائل إلى فولكر يقولون له فيها كيف أنهم ادّخروا لسنوات لشراء منزل، ولكنّهم اليوم لا يستطيعون الحصول على التمويل بسبب الفوائد العالية».
لكن الحاجة إلى إنهاء مرحلة من الرأسمالية والإتيان بأُخرى كانت أهمّ من اعتراضات البعض، أفراداً أو جماعات، فتمّ كسر شوكة مراقبي الجوّ الأميركيين الذين اعترضوا في عام 1981، وكسر قوّة عمّال المناجم في بريطانيا بين عامي 1984 و1985. وبهذا أعلن الرأسمال تأكيد سيطرته، وأن المرحلة الكينزية من السلم الطبقي قد انتهت.

فولكر وأزمة الديون
لكن التأثير الأساسي لسياسات فولكر لم تكن فقط داخل حدود الولايات المتّحدة، فانفجار الفوائد في أميركا بعث بموجات الصدم حول العالم، فانفجرت أزمة الديون الشهيرة في أميركا اللاتينية وأعلنت المكسيك عن عدم قدرتها على الدفع، وقد أدّت إلى أزمة أيضاً في الدول الاشتراكية من بولونيا إلى رومانيا إلى ألمانيا الشرقية التي كانت قد استدانت من الأسواق والمصارف العالمية في السبعينيات. وبانفجار أزمة الديون في الثمانينيات، أصبح صندوق النقد الدولي إحدى أدوات الهجوم المضادّ الذي شنّه الرأسمال بذريعة محاربة التضخّم وحلّ معضلة العجوزات الداخلية والخارجية في الدول النامية. وكان الغطاء الأيديولوجي لهذه السياسات الجديدة، ما عُرف لاحقاً بـ«توافق واشنطن» حول السياسات الاقتصادية التي يجب على الدول حول العالم اتباعها.

... والقنبلة الموقوتة الأميركية تنفجر
خلال مفاوضات «بريتون وودز»، كان هدف كينز من طرحه اتحاد التخليص الدولي بدلاً من صندوق النقد الدولي، وضع عبء التكيّف على المستوى العالمي على كاهل الدول الدائنة بشكل أساسي بدلاً من الدول المدينة. فقد كان كينز يعلم أن «العولمة»، أو الاندماج العالمي، سيخلق رابحين وخاسرين على عكس ما تدّعي النظرية الاقتصادية الكلاسيكية من أن الجميع سيربح. وكان لا بدّ من أن يحصل تكيّف في هذا النظام بين فترة وأخرى، وبالتالي أراد وضع عبء التكيّف على القوي وليس على الضعيف. لكن الولايات المتّحدة طرحت رؤية مغايرة، فقد رأى الوفد الأميركي ومساعد وزير الخزانة الأميركي هاري ديكستر وايت (الذي عيّنه ترومان أوّل مدير تنفيذي أميركي في الصندوق، واتُهم لاحقاً بأنه جاسوس سوفياتي!) أن التكيّف يجب أن يقع على الدول المدينة، أي التي لديها عجز مع الخارج وبالتالي على الدول ذات العجز «أن ترتّب أوضاع بيتها الداخلي». وقد ربح وايت على كينز في النهاية لأن أميركا كانت القوّة الصاعدة وبريطانيا القوّة الخافتة.
في نهاية الستينيات، بدأت الحلقة الحميدة بين الأجور والأرباح بالانحلال، وهو ما أدّى إلى التراجع عن الكينزية والفوردية، بسبب تهديد هذه الديناميكيات للأرباح والرأسمالية

في هذا الإطار، بدأ الصندوق بعد أزمة الديون في أميركا اللاتينية، وبعد أزمات ميزان المدفوعات في الكثير من الدول، فرض شروطه القاسية: التقشّف ورفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية وفرض الضرائب غير المباشرة والانكماش النقدي والخصخصة والتحرير المالي على هذه الدول. وقد كان لهذه السياسات الوقع السلبي، وهي أدّت في أميركا اللاتينية إلى ما عُرف بالعقد المفقود (the lost decade) في ثمانينيات القرن الماضي.
وحتّى اليوم، إذا أراد البعض أن يوجّهوا انتقاداً مخفّفاً للصندوق مثل ذاك الآتي من خوسيه أوكامبو، فإنهم لا يستطيعون أن يتجاهلوا الوقع السلبي لـ«شروط» الصندوق في تلك الفترة. في هذا الإطار يقول أوكامبو في مقالة له في 19 تمّوز/ يوليو الجاري «الشروط التي ترافقت مع المساعدات كانت خاضعة للجدل، وخصوصاً السياسات التي طلب الصندوق اتباعها من الدول في أميركا اللاتينية في الثمانينيات، وفي أوروبا الشرقية وشرق آسيا في التسعينيات، والتي وَصَمَت الصندوق بالسمعة السيّئة التي تحدث ردّات فعل سلبية حتى يومنا هذا».
طبعاً، لم تكن مصادفة تاريخية أن سياسات الصندوق أتت متزامنة مع الريغانية والثاتشرية وصعود النيوليبرالية التي أدّت في الدول الرأسمالية المتقدّمة إلى تراجع النقابات والمكاسب العمّالية، وتغيّر «حصّة العمّال من الناتج المحلّي» التي تكلّم عنها كينز خلال «زيارته» لواشنطن. واليوم بعد ثلاثين عاماً، تحوّل انتصار الأجور على الإنتاجية إلى انتصار الإنتاجية على الأجور وزيادة حصّة الأرباح.
كل هذا التاريخ نساه، أو ربّما لا يعرفه «مؤرِّخ» صندوق النقد الدولي، مع أنها هي المرحلة الأكثر شهرة أو infamous في تاريخه. ومن المؤكّد أن كينز كان ليرحّب بهكذا نقاش حول «إخراجه» من واشنطن، وربّما كان انتقد نفسه أيضاً، أو كان انتقد الذين طبّقوا سياساته بتقنية، من دون سبر أغوار نقده الراديكالي للرأسمالية. كما أن كينز كما قال كاتب سيرته روبرت سكيدلسكي «لكان ثَمّنَ عالياً سخرية القدر في أن الولايات المتّحدة التي كانت ضدّ فكرة تكَيّف الدول الدائنة أصبحت اليوم تطالب بها»، وذلك بعدما أصبحت هي مَدينة والصين دائنة! لكن خلال الحديث بين لاغارد وكينز قالت له «نحن نتعاطى مع مسائل جديدة: عدم المساواة في الدخل، تحقيق المساواة بين الجنسين، والتغيّر المناخي العالمي». فهل يهتم فعلاً الصندوق اليوم بهذه القضايا وخصوصاً بعدم المساواة التي أنتجتها بشكل أساسي سياساته منذ الثمانينيات وحتّى الآن؟ طبعاً، لكل إنسان أو مؤسّسة أو دولة الحقّ في التراجع عن مواقف سابقة، إذا تبيّنت له حقائق جديدة، كما كان كينز يحب أن يقول. فهل يفعل صندوق النقد الدولي ذلك اليوم؟ فلنرَ المرّة المقبلة.