لا يعني البحث في انعدام المساواة النظر في الاختلافات. لأنّ الاختلافات تضحي انعدام مساواة عندما ينتج عنها عدم حصول أفراد أو مجموعات ضمن جماعة اجتماعيّة، بسبب اختلافاتهم هذه تحديداً، على الموارد ذات القيمة أو على الخدمات أو الخيرات العامّة، بشكلٍ متساوٍ. بالتالي، يرتبط مفهوم انعدام المساواة بشكلٍ وثيق مع مفهوم الإنصاف والعدالة، وهو بطبيعته مفهوم سياسي. إذ نجد في صلب هذا المفهوم الجدليّة بين ما هو اجتماعي وبين ما هو فردي، وبين ما هو عامّ وما هو خاصّ في الخيرات والخدمات والموارد، وبين الحرّية والمصير القسري، وبين انعدام المساواة نفسها وبين التوزيع وإعادة التوزيع التي لا معنى للحديث عن انعدام المساواة من دونها. انعدام المساواة هو إذاً في الأساس مفهوم سياسي لا لزوم لإعادة اكتشاف أنّه بطبيعته سياسي.والسؤال الأساسي هنا هو من يقوم بإعادة التوزيع هذه وكيف؟ كلّ هذا ليس أمراً إحصائيّاً فقط، بل الحقّ في الإنصاف المتضمّن في شرعة حقوق الإنسان، ومجالاً للعلوم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وخصوصاً للاقتصاد السياسي، لفهم ديناميّات انعدام المساواة وكيفيّات تحوّلاتها. بتطوّراتها التلقائيّة أو تطوّراتها الناتجة عن إرادة سياسيّة واجتماعيّة، مهما كان مدى انعدام المساواة المقبول اجتماعيّاً في لحظة معيّنة من التاريخ بمعزل عمّا تقول به الدساتير من ضرورة إحقاق المساواة.
سيلفانو ميللو ــ البرازيل

إلاّ أنّ قياس انعدام المساواة يعتمد على قياس أمرٍ ما قابل للقياس. واللافت عندما نخصّص حديثنا عن البلدان العربيّة هو ندرة أو غياب المعطيات، الإحصاءات كما المسوحات، لتوثيق انعدام المساواة. والأغرب أنّ هذا يحدث بشكلٍ خاصّ في هذه الفترة من تاريخ البلدان العربيّة أكثر منه في مرحلة ما بعد الاستقلال.
حيث ليس هناك قاعدة معلومات ضريبيّة طويلة الأمد يُمكن أن يقام على أساسها بحوث كالتي قام بها توماس بيكيتي لفهم ديناميّات انعدام المساواة في المداخيل والملكيّات في المجتمعات العربيّة. وهذه إن وجدت لا تصل إلى قياس المداخيل والملكيات الضئيلة كما تلك الكبيرة جدّاً، فكلاهما خارج القاعدة الضريبيّة، غير مهيكلة informal. حاول توماس بيكيتي (مؤلّف كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين») وزملاؤه فعل ذلك ولمّا شاهدوا قلّة البيانات انصرفوا لتبيان انعدام المساواة بين البلدان العربيّة الغنيّة بالموارد وتلك الفقيرة بها. ولكن تطرّقهم لانعدام المساواة هذا الناتج عن تاريخ التقسيم الاستعماري للبلدان العربيّة يطرح التساؤل عن أين تقع إذاً قضيّة إعادة التوزيع بين البلدان العربيّة، إذا كان لتصنيف هذه البلدان... عربيّة من معنى؟
يصل غياب الإحصاءات والمسوحات في بعض البلدان العربيّة إلى حدود قصوى. إذ لا تجري أو لا تُنشَر مسوحات دوريّة لدخل أو نفقات الأسر، ولا لقوّة العمل. وحتّى لو أجريت لا يتمّ ذلك حسب المعايير الدوليّة، كما في حالة عدم قياس انعدام الهيكلة بالنسبة إلى العمل، بل يتمّ أحياناً التلاعب بأرقامها. فكيف يتمّ قياس تطوّر البلدان المعنيّة باتجاه تحقيق الألفيّة في 2030 وما معنى التقارير التي تصدر في هذا الخصوص؟ لقد تمّ الاتفاق أمميّاً مع مكاتب الإحصاء الحكوميّة على مجموعة من المؤشّرات التي يجب توثيقها إلزاميّاً والتي لا تتطلّب جهداً استثنائيّاً، بينها بالضبط مسوحات دخل ونفقات الأسر، التي تبقى غير موثّقة، والحسابات القوميّة، التي لا يتمّ هي أيضاً توثيقها بشكلٍ تفصيلي إلّا عبر التقرير السنوي لصندوق النقد. فما بالنا بالمؤشّرات الأكثر تفصيلاً لقياس انعدام المساواة، ليس فقط لتوثيقه للأمم المتحدة بل أصلاً للقيام بسياسات أو لتبرير السياسات القائمة أمام المجتمعات؟
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مسؤوليّة الأمم المتحدة، التي ساهمت أصلاً بعض الدول العربيّة في إنشائها، تبقى في أن توثّق على الأقلّ غياب المعطيات هذا، إن لم تكن قادرة سياسيّاً على الخوض بعيداً في مسبّبات انعدام المساواة. وإلّا أضحت هي أيضاً كما مؤسّسات بريتون وودز، البنك والصندوق الدوليين، اللذين لا نشهدهما ينتقدان الدول المتقدّمة وسياساتها وطرق الإفصاح عن معطياتها، على الرغم من أنّ هذه الدول تسبّبت بأكبر أزمة اقتصاديّة عالميّة منذ إنشائها.
أمام هذه النُدرة تذهب بعض الدراسات الكميّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في اتجاهات غريبة. إذ لا يطبّق مفهوم «السكّان» على الإحصاءات والمسوحات. السكّان هم جميع السكّان الموجودين في بلدٍ معيّن في لحظة معيّنة، بمن فيهم من اللاجئين والعمّال المهاجرين وليس فقط المواطنين. ومن المزج بين مفهومي السكّان والمواطنين يأتي خطأ شائع عند السؤال عمّا هو البلد العربيّ الأعلى نموّاً... للسكّان؟ إنّه بالطبع الإمارات وليس مصر أو غيرها من البلدان الكثيفة بالمواطنين.
كذلك تذهب بعض المسوحات والدراسات إلى قياس «الانطباعات» perceptions عن انعدام المساواة بدل قياس انعدام المساواة ذاتها. ويبقى السؤال عمّا هي أهميّة سؤال مواطنين عن انعدام المساواة عندما يقع الجزء الأكبر منها على غير المواطنين، بل يكون استغلال غير المواطنين هو الديناميّة الأساسيّة لتوزيع الثروة. بالطبع يبقى قياس «الانطباعات» مهمّاً معرفياً كما هي استطلاعات الرأي، ولكن لا يمكنه أن يحلّ مكان قياس أمور انعدام المساواة بحدّ ذاتها. كذلك تلجأ بعض الدراسات إلى إنتاج مؤشّرات مركّبة معقّدة، إشكاليّتها الأساسيّة أنّها تخفي غياب المعطيات عن بعض النواحي الأساسيّة، ولا يكون فيها القياس متوازياً بين بلدٍ وآخر.
وأبعد من ذلك، تذهب الكثير من بيانات المسوحات والإحصاءات إلى مقارنة تقدّم البلدان العربيّة في الحصول على الموارد والخدمات بين بعضها البعض، ثمّ الإطالة في شرح الأوضاع الصعبة للصومال أو اليمن أو مصر. لا معنى لهذه المقارنة عالميّاً، بل لمقارنة بين الدول المثيلة في حصّة الفرد من الدخل أو الناتج المحليّ. وعندها تظهر الصورة مختلفة جداً أنّ الدول العربيّة المتوسطة أو القليلة الدخل تشابه مثيلاتها العالميّة لجهة انعدام المساواة كما التنمية، في حين تقصُر الدول العربيّة الوفيرة الموارد كثيراً عن أداء مثيلاتها في العالم. وفي الحقيقة، لا معنى للمقارنة بين الدول العربيّة الغنيّة والفقيرة إلاّ في مجال البحث في آليّات الهيمنة التي تُنتِج انعدام المساواة بينها بحدّ ذاتها. ومثال ذلك بعض الاحتكارات الكبيرة في إنتاج الريع التي أضحت تتموضع فيها.
بعض قضايا انعدام المساواة أصبح لغة شائعة يُستَخدَم لأغراض تسويقيّة من قبل المؤسسات الدوليّة والكثير من منظّمات المجتمع المدني من دون أثر حقيقي عليها. والمثال الأوضح هو تبنّي صندوق النقد الدولي لقضايا المرأة والجندرة وإصراره في تقاريره على ضرورة الحدّ من التمييز ضدّ النساء. هكذا خرج تقرير جسم الرقابة في صندوق النقد، وهو مكتب الرقابة المستقلّ IEO، ليتساءل عن الفائدة من هذا التبنّي إن لم يكن هناك آليّات يضعها الصندوق تدعمه وتحدّ من التمييز ضدّ النساء؟ خصوصاً أنّ الصندوق له أثر كبير على مجمل حجم المساعدات التي تحصل عليها الدول.
من ناحيته، لطالما قام البنك الدولي بمطالبة الدول بتقليص الإنفاق على التعليم، وعلى التعليم العالي بشكلٍ خاصّ، من ضمن سياسات ما يُسمّى الإصلاح الهيكلي. وفي الحقيقة، البنك الدولي هو المسؤول الأكبر عن سياسات الإصلاح الهيكلي أكثر من الصندوق، إذ إنّه هو الذي لديه الإمكانيّات البحثيّة ليرى أثر هذه السياسات على التنمية وانعدام المساواة. كانت حجّة البنك الأساسيّة أنّ الخرّيجين لا يجدون عملاً. هذا في ظلّ فترة القفزة الشبابيّة وتسارع هجرة الريف إلى المدينة في الدول العربيّة. ولم يهتمّ سوى بالإنفاق الحكومي من دون مجمل الإنفاق الاجتماعيّ على التعليم وآليّاته، على الرغم من المعرفة بالفرق بين الاثنين. هكذا بالضبط كما يفعل صندوق النقد عندما يهتمّ فقط بالضرائب لجهة موارد الدولة من دون مجمل التحصيلات الاجتماعيّة، بما فيها التأمين الصحيّ ومساهمات التقاعد.
صحيحٌ أنّ منشورات بحوث العلوم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ضئيلة في العالم العربي. لكن السبب لا يكمُن فقط في قلّة الإحصاءات والمسوحات، بل أيضاً في إشكاليّات مراكز البحوث. ففي الجامعات ومراكز البحوث الحكوميّة تبقى حرّية البحوث مقيّدة وكذلك الفكر النقديّ. وفي مراكز البحوث والجامعات الخاصّة هناك أيضاً إشكاليّات تحدّ من حرّية البحث والفكر النقدي تتعلّق بالجهة المموّلة. وكذلك هو الأمر في كثير من منظّمات المجتمع المدني. كثيرٌ من الفكر النمطي وقليلٌ من الفكر النقدي والندرة في البحوث التمحيصيّة. اللهمّ إلّا إذا كان الباحث مثلاً في قطر يفصّل العجوزات الاجتماعيّة في مصر من دون الخوض في انعدام المساواة في البلد الذي يعيش فيه. وحقّاً ما معنى الحديث عن الحرّية والمساواة والثورة في قطر أو السعوديّة أو الإمارات حيث لا يستطيع ابن المهاجر الذي خدم البلاد سنين طوالاً والمولود هناك أن يحصل على الحدّ الأدنى من المساواة مع ابن المواطن. حتّى مراكز البحوث في الغرب أضحى صعباً فيها الخروج عن بعض الاتجاهات النمطيّة، لأسباب أحياناً مشابهة، حيث يتمّ التساهل في وضع العامِل الأيديولوجيّ، وأعني هنا الإسلام، كمسبّب أساسي للتفاعلات الاجتماعيّة والسياسيّة من دون الخوض في الآليّات الأكثر عُمقاً - فما الفرق مفهوميّاً بين اعتبار أنّ الإسلام هو المشكلة واعتبار أنّه الحلّ؟ - أو أن يُعزى كلّ شيء للاستبداد الداخلي من دون الخوض في آليّات الهيمنة من الخارج. العامل الأيديولوجي ونظام الحكم لهما بالطبع أثر، وأحياناً أثر كبير، ولكن هناك كثير من التساهل في الزعم أنّهما وحدهما المسبّبان الرئيسان. لم يكن بسمارك الألمانيّ سوى مستبدّ ولكنّه أسّس نظام التأمين الصحي الشائع في معظم دول الرعاية الغربيّة اليوم.
ختاماً تعيش البلدان العربيّة اليوم فترة عصيبة لا سابق لها. دمّرت فيها العراق ثمّ ليبيا ثمّ سوريا ثمّ اليمن ومن يدري أيّها بعد. دمّرت المجتمعات كما الحجر. وسيتمّ طرح قضايا انعدام المساواة بشكلٍ مختلف في ما بعد هذه الفترة، حتّى في البلدان التي نحت فيها التحوّلات منحى سلميّاً. وسيكون للبحوث الاجتماعيّة الاقتصاديّة السياسيّة التي تقام اليوم، بما فيها حول انعدام المساواة، الوطنيّة والمناطقيّة وبين الدول، أثر كبير لتأسيس عقلانيّة ما سيأتي بعدها. عقلانيّة تصنع حريّات وتثبّت حقوق.

* مداخلة في الندوة التي أقيمت في الجامعة الأميركيّة في بيروت في 13-14 أيلول/ سبتمبر بمناسبة إطلاق النسخة العربيّة من التقرير العالمي للعلوم الاجتماعيّة - 2016 الصادر عن اليونسكو

* رئيس منتدى الاقتصاديين العرب