يشرح الكاتب مزايا مشروع القانون المطروح لإنشاء الصندوق السيادي اللبناني والقواعد التي ستحكمه. ويساجل أنه من الأولويات الآن على عكس ما يذهب إليه المنتقدون، إذ يجب أن يكون جاهزاً في أقل من ست سنوات، لكي يدير أكبر ثروة يشهدها لبنان، ما يفرض العمل على تصميمه بما يحافظ على الواردات المالية الناتجة من الموارد الطبيعية وتجديدها من خلال استثمارها بمهنية عالية، مع استعمال جزء منها للإنماء الاقتصادي ولإعادة هيكلة الدين كجزء من سياسة ماكرو اقتصادية للدولة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

الآن، وقد اقترب لبنان من بدء أعمال الحفر للتنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية في بداية عام 2019 في بلوكين من أصل عشرة، ومع التحضير لتلزيم بلوكات جديدة أخرى هذه السنة، سببدأ تدفّق مليارات الدولارات من القطاع في غضون سنوات قليلة. قد تبدو هذه السنوات كثيرة، ولكن في حياة قطاع سيغيّر مصير لبنان هي بالكاد كافية لإرساء قواعد أساسية لإدارة هذه الأموال، والتي تشكّل شرطاً مسبقاً للحفاظ عليها واستعمال جزء منها بشكل فعّال. القانون الأكثر إلحاحاً حالياً هو قانون إنشاء الصندوق السيادي اللبناني. لقد بدأ العمل على تنظيم القطاع منذ ثماني سنوات، وتأسّست هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية منذ ست سنوات وراكمت الخبرات لتستطيع إنجاز دورها، فكيف بمؤسّسة مثل الصندوق السيادي يجب أن تكون جاهزة في أقل من ست سنوات على الأرجح لكي تدير أكبر ثروة قد يشهدها لبنان؟

لماذا الآن؟
ثلاثة أسباب رئيسية وراء الحاجة إلى إقرار قانون الصندوق السيادي اللبناني وتأسيسه.
أولاً، من حق الشعب اللبناني، المالك النهائي للموارد الطبيعية على أرضه زمالك الأموال التي تنتج من بيعها، أن يطمئنّ إلى الثوابت التي ستُدار على أساسها هذه الأموال قبل تحصيلها، وخصوصاً مع فقدانه الثقة بمؤسّسات الدولة عبر السنين.
ثانياً، إن لبنان، أو أي دولة في العالم نظامها المالي والاقتصادي منفتح، مسؤول أمام المؤسّسات الدولية التي هو جزء منها ويتّكل عليها أحياناً، وأمام المستثمرين الذين يضعون أموالهم في السندات الحكومية أو في أي قطاع اقتصادي أو مالي لبناني، وأمام الرأي العام بما فيه شركات التصنيف الائتماني التي يؤثّر رأيها جدياً على نظرة العالم إلينا، كما أمام الشركات الأجنبية التي ستعمل في قطاع البترول والتي ترتفع يوماً عن يوم متطلّباتها للشفافية في إدارة القطاع.
ثالثاً، إن بناء مؤسّسة محترفة ومتخصّصة مثل الصندوق السيادي يتطلّب سنوات عدّة، وفقاً لتجارب بلدان عدّة شهدت على ذلك.

كيف تُصمّم الصناديق السيادية؟
القواعد الأساسية لبناء صندوق سيادي تبدأ من أهدافه التي تختلف وفق طبيعة نظام البلد وحاجاته وتطلّعاته. فالصندوق لدولة متحضّرة مثل النروج (لديها فائض في الموازنة من خارج موارد البترول منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية)، تختلف عن حاجات تشيلي التي تتّكل على الأموال التي يدرّها استخراج النحاس لتمويل نظامها الاجتماعي من خلال الصندوق السيادي.
في البلاد الغنية جداً بالموارد الطبيعية مع عديد سكاني قليل وتتّكل على هذه الموارد لتعتاش كأبو ظبي والكويت، فان فائض الواردات يُستعمل لتنويع الاقتصاد وتخفيف اتّكاله على النفط، في مقابل تطلّعات مختلفة لبلاد بحاجة إلى هذه الأموال في الموازنة مثل المكسيك، أو بلاد فقيرة مثل بعض البلاد الأفريقية التي بحاجة إلى استثمار مباشر للأموال من دون تأخير في البنى التحتية والأمان الاجتماعي.

مبادئ تصميم الصندوق السيادي اللبناني
أمّا لبنان، فهو بلد غنيّ جداً بقدراته، وهنا نشدّد على كلمة قدراته، على بناء اقتصاد مزدهر إلى أقصى الحدود وخدمات عالية الجودة وشبكة أمان اجتماعية واسعة، من دون برميل نفط واحد. نظامه المالي المنفتح ونظامه الاقتصادي الحرّ ونظامه السياسي الديموقراطي، يضاف إليهما شعبه المتعلّم والكفوء، فهي تكفي في ظلّ السياسات الاقتصادية الصحيحة لكي نطوّر اقتصادنا وخدماتنا.
أما الآن، وقد وصل اقتصادنا إلى الحضيض ويأكلنا الدين العام في ظلّ خدمات عامة متدنّية وشبكة أمان مثقوبة، لا ضرر من الاستفادة من نعمة الموارد البترولية لتسريع الحلول، ولكن بشرطين:
أوّلاً، ادّخار النسبة الأكبر من الواردات المالية الناتجة من الموارد البترولية، لأنّها الطريقة الوحيدة للحفاظ على ثروة بطبيعتها غير متجدّدة، ولكي لا نصبح مدمنين عليها وعرضة لهزّاتها، ولمشاركة الأجيال القادمة بها.
الشرط الثاني، هو أن يكون الإنفاق الجزئي مشروطاً بسلوك اقتصادي حكيم، وأن يكون في مجالات منتجة، وفي إعادة هيكلة الدين مشروطة بفائض أولي لكي لا تُهدر الأموال ونقع في الأخطاء نفسها. فالهدر والاستهتار بوضع السياسات الاقتصادية اللازمة في ظل وجود البترول يؤدّي إلى لعنة الموارد، وهي الحالة التي تمرّ بها بلدان غنية بالموارد عندما يصبح نموها الاقتصادي وديموقراطيتها وتنميتها في حال أسوأ من البلدان التي لا تملك موارد مشابهة، وهنا نذكر نيجيريا وفنزويلا كمثال حيّ.
قانون الصندوق السيادي اللبناني يأخذ بهذه الاعتبارات وبهذه التطلّعات ويرسم نظام حوكمة ونظاماً مالياً للإنفاق وقواعد للاستثمار وقواعد للشفافية، بحيث يساهم في تنفيذ الرؤية المطلوبة. سنعرض هذه المحاور الأربعة، آملين أن يقرأ المنتقدون الجدد جيداً ليستطيعوا أن يقدموا نقداً علمياً يساهم في تطوير المعرفة العامة في المجال بدلاً من تضليل القرّاء.
حوكمة الصندوق السيادي اللبناني
• صمّمت حوكمة الصندوق السيادي اللبناني وفقاً لأفضل الممارسات المعتمدة عالمياً، وهي الهيكلية البنيوية للصندوق وآليات الضبط الإداري للعلاقة بين مختلف أقسام الصندوق، وبين الصندوق والجهات المعنية بشكل يضمن عدم تجاوز أي من هذه الجهات ولايتها، ما يضمن حسن عمل المؤسّسة، والمساءلة في أدائها وأداء المسؤولين عنها، وشفافية عملها.
• تم تصميم حوكمة الصندوق بشكل يتماشى مع مبادئ سنتياغو العالمية (Santiago Principles)، وهي مبادرة من صندوق النقد الدولي بعد الانهيار المالي في عام 2008 هدفها إرساء مبادئ لتشجيع الحوكمة الرشيدة والمساءلة والشفافية والممارسات الاستثمارية الحكيمة والفهم المتبادل لأنشطة الصناديق السيادية. وقد إنضم اختيارياً معظم الصناديق السيادية في العالم الى هذه المبادرة. وخيار انضمام لبنان يأتي بشكل طبيعي بعد تأسيس الصندوق باعتباره عضواً في صندوق النقد، وستكون أسوةً بالانضمام اختيارياً إلى مبادرة الشفافية (EITI) وفق قرار مجلس الوزراء.
• الصندوق السيادي اللبناني مستقلّ في إدارته وقراراته لفصله عن التجاذبات السياسية والسياسات المالية والنقدية للدولة، ولكن تحت رقابة وتوجيهات مجلسَي الوزراء والنواب. وزير المال هو وزير الوصاية كما هي الحال عالمياً من دون استثناء، وليس لديه سلطة التوظيف أو أخذ القرارات الإدارية. يقوم وزير المال بدور صلة الوصل، فهو يسلّم تفويض الاستثمار، والذي هو وثيقة استراتيجية تحضر سنوياً من مديرية الأصول البترولية التي يجب إنشاؤها، إلى مجلس إدارة الصندوق بعد موافقة مجلس الوزراء ومجلس النواب عليه، ويسلّم وزير المال التقارير السنوية والمالية لأداء الصندوق إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب للموافقة عليها.
• يُعيّن مجلس الوزراء أعضاء مجلس الإدارة الثمانية، وهم جميعاً مستقلّون ومن أصحاب الاختصاصات المالية والاقتصادية. ثمّ يُعيّن مجلس الإدارة لجاناً من أصحاب الاختصاصات لمعاونته في التوظيف ورسم الاستراتيجيات والخطط والرقابة على الطاقم الإداري وعلى التقيّد باستراتيجية الدولة الاقتصادية والمالية والاستثمارية. تفاصيل التقارير وتفويض الاستثمار وعمل مجلس الإدارة واللجان تُفصّل في المراسيم التطبيقية للقانون.
قواعد السحب (الإنفاق) للصندوق السيادي اللبناني
تُصاغ قواعد السحب وفق حاجات البلد الاقتصادية والمالية، والأهم وفق تطلّعاته. هناك خمس طرق متبعة عالمياً لاستعمال الإيرادات الناتجة من الموارد الطبيعية لتعكس هذه الحاجات والتطلّعات، وهي: تحقيق الاستقرار في الموازنة، تخفيض الدين، خدمات اجتماعية، الاستثمار في البنية التحتية والادّخار. مهما كانت تطلّعات البلد وحاجاته، يجب أن تحترم قواعد السحب ثلاثة مبادئ اقتصادية لتفادي انقلاب النعمة إلى نقمة.
أولاً، يجب تفادي المرض الهولندي (Dutch Disease) بكل الوسائل، وهو مصطلح يستعمل لوصف دولة تعتمد على الموارد الطبيعية فيزدهر اقتصادها البترولي على حساب القطاعات الأخرى، ما ينجم عنه انخفاض الصادرات الأخرى ويجعلها رهينة لتقلّب الأسعار ويحدّ من القدرة على الازدهار المستدام.
ثانياً، التنبّه من السياسة المالية الدورية القصيرة الأجل (procyclical fiscal policy)، نظراً إلى أن الإيرادات من الموارد الطبيعية هي عرضة للتقلّبات، فإن معظم الحكومات التي تعتمد على الموارد الطبيعية ينبغي أن تتفادى الصرف المفرط عند ارتفاع أسعار النفط لأنّه يصبح من المستحيل الحفاظ على الخدمات والتقديمات نفسها عند انخفاض الأسعار.
ثالثاً، التنبّه من دورات الازدهار والكساد على المدى الطويل (boom bust cycles)، إذ إنّ البلدان الغنية بالموارد الطبيعية التي لا تدّخر أو لا تستثمر لمصلحة الأجيال القادمة، تختبر فترة ازدهار خلال تدفّق الواردات يليها ركود اقتصادي. لذا صُمّمت قواعد السحب وفق هذه المبادئ وتماشياً مع حاجات لبنان بالطريقة الآتية:
• فصل الواردات النفطية عن موازنة الحكومة، إذ إنّ اقتصاده لم يكن يوماً يعتمد عليها، وتحفيز الحكومة على الالتزام بموازنة مستقرّة مع فائض أوّلي غير نفطي يسيطر على ازدياد المديونية كشرط لاستعمال جزء من الواردات النفطية وفق معادلة واضحة (debt sustainable primary surplus). هذه المعادلة لا تجمع فقط بين النفقات والدين، بل أيضاً تحصيل الواردات غير النفطية ونمو الناتج المحلي.
• استعمال جزء صغير من الواردات النفطية، عند استيفاء الشرط أعلاه، في مشاريع حيوية تنجم عنها قيمة اجتماعية عالية كالاستشفاء والتربية والزراعة والابتكار، مع خفض مضبوط للدين القديم، على أن تلحظ في موازنة السنة التي تليها لكي تكون جزءاً من استراتيجية متكاملة ماكرو اقتصادية للدولة.
• ادّخار الجزء الأكبر من الأموال واستعمال العائد فوق التضخّم فقط في مشاريع إنمائية، وذلك للحفاظ على القدرة الشرائية لرأس المال.
خلاصة
لقد صُمِّم مشروع الصندوق السيادي اللبناني على أُسس مُثلى علمية وعالمية تكاملاً مع المقوّمات اللبنانية كمؤسّسة مستقلّة. يهدف الصندوق إلى الحفاظ على الواردات المالية الناتجة من الموارد الطبيعية وتجديدها من خلال استثمارها بمهنية عالية، مع استعمال جزء منها للإنماء الاقتصادي ولإعادة هيكلة الدين كجزء من سياسة ماكرو اقتصادية للدولة تضمن وقف الهدر وحوكمة الصندوق وقواعد السحب وقواعد الاستثمار والشفافية والمساءلة والرقابة تضمن تشغيله وإدارته بأفضل أداء. يبقى على مجلس النواب أن يكمل تشريعه للقانون المطروح لتبدأ الورشة التي ستأخد الكثير من الجهد والوقت.


قواعد الاستثمار
ترتبط الاستراتيجية الاستثمارية للصندوق السيادي بالسياسة الماكرو اقتصادية للدولة، من خلال تفويض الاستثمار الذي يُحدّد المبادئ والتوجيهات لاستثمارات الصندوق وفقاً لمعايير معيّنة لمخاطر الاستثمار وتوزيع الأصول المالية على الفئات الاستثمارية. وتفويض الاستثمار هو وثيقة تُعدّها وزارة المال سنوياً، ويوافق عليه مجلسا النواب والوزراء كي يكون جزءاً من السياسة الاقتصادية العامة. ويسلّم وزير المال تفويض الاستثمار بعد الموافقة عليه إلى مجلس الإدارة لتنفيذه.
لا يجوز تضمين تفويض الاستثمار توجيهاً يطلب من خلاله وزير المال من الفريق الإداري الاستثمار في أصل معيّن أو في أي نشاط، يكون له أو لأي موظّفي الصندوق أو أقاربهم حتى الدرجة الرابعة منفعة شخصية مباشرة أو غير مباشرة منه.
يستثمر معظم الواردات النفطية في الخارج (80%) لتحييد سلامة الادّخارات عن المشاكل المحلّية ولتوزيع المخاطر، على أن يستثمر الجزء الأصغر محلياً في قطاعات مهمّة اقتصادياً، بما يعادل الاستثمار الأجنبي المباشر (Foreign Direct Investment)، ما يخلق وظائف ويخوّل الدولة الاستثمار في قطاعات مهمّة، ولكن غير مغرية للمستثمرين التقليديين.
لحماية الصندوق من سلوك المخاطرة، لا يمكن الاستثمار في المشتقّات المالية باستثناء تلك التي ترتبط بطبيعة الحال بمحفظات الاستثمار المذكورة في تفويض الاستثمار، ولغرض التحوّط وليس لغرض المضاربة والرفع المالي.


قواعد الرقابة والمساءلة والشفافية
يخضع الصندوق للرقابة من جهاز الدولة المعني، كما من وزير المال الذي هو بدوره مسؤول مع إدارة الصندوق أمام مجلس الوزراء ومجلس النواب، فيخضع الصندوق لرقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة، حيث يقوم الأخير بالتأكّد من صحة وقانونية تنفيذ المهمّات من قبل وزير المال ومجلس الإدارة ويقدّم تقريراً بذلك إلى مجلس النواب.
يعيّن وزير المال مدقّقاً خارجياً مستقلاً لمراقبة حسابات الصندوق، ويقدّم المراقب تقريره إلى مجلس الإدارة الذي بدوره يرفعه مرفقاً بتقريره السنوي الى وزير المال. ثمّ يرفع وزير المال التقريرين مع تقرير منه يتضمّن طريقة تنفيذ تفويض الاستثمار إلى مجلسي الوزراء والنواب للمساءلة.
لضمان الشفافية، توضع كلّ التقارير وكلّ تفاصيل حجم الأموال وكيفية استثمارها على الموقع الإلكتروني للصندوق.
*خبير اقتصادي