منذ بعض الوقت، تثير التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة في تركيا قلق الحكومات الغربية. غير أنّه نظراً إلى اانشغالها بأزماتها السياسية الخاصة، تبدو الحكومات الغربية بطيئة أو مترددة في الرد بشكل فعّال على هذه التطورات. ونظراً إلى أنّ غالبية سكّان تركيا من المسلمين ولدى هذا البلد الإمكانية للعب دور قيادي في الشرق الأوسط ككل، أو حتى لكونه يشكّل نوعاً من الحاجز أمام تدفّق اللاجئين إلى أوروبا، لا تزال الحكومات الغربية تتسامح مع تركيا باعتبارها شريكة، ولو كانت إشكالية. ويبدو الغرب يقف متفرّجاً أمام تحوّل تركيا أكثر فأكثر إلى نوع غريب من الحكم الاستبدادي. فقد شهدت تركيا تطوراً بالغ الأهمية مع انتخابات 24 حزيران/يونيو 2018 التي أدخلت تغييراً شاملاً إلى النظام السياسي التركي. وسبقها استفتاء في 16 نيسان/أبريل 2017 لتغيير النظام البرلماني ليصبح نظاماً «سوبر رئاسياً»، وحصل التغيير بغالبية بسيطة (51.4% مقابل 48.6%). ولاحقاً دعت الحكومة إلى انتخابات مبكرة في حزيران 2018 لوضع هذا التغيير حيّز التنفيذ. وفاز أردوغان مجدداً على منافسيه وحوّل النظام التركي رسمياً إلى حكم استبدادي لرجل واحد.
(ماريلينا ناردي ــ إيطاليا)

قد يرى البعض هذا الانحدار في تركيا كنتيجة للعيوب الديمقراطية المستمرة في الجمهورية منذ ولادتها، أو أنّه ببساطة مثال عادي على الاستبداد الشرقي. غير أنّي من جهتي أعتقد أن الحالة التركية يجب أن تُدرس في سياق الصعود العالمي للشعبوية اليمينية التي تعتبر بحدّ ذاتها نتيجة لفشل العولمة النيوليبرالية.
تشكّل الحوكمة الاقتصادية النيوليبرالية والتيارات الشعبوية اليمينية والاستبدادية التي تولّدها، مخاطر كبيرة على الديمقراطيات حول العالم. وعلى الرغم من أنّ هذا الاتجاه الرجعي موجود أصلاً، إلاّ أنّه تكثّف بعد الأزمة المالية العالمية في 2007/2008 حيث تأثرت الدول ذات المؤسسات الضعيفة والديمقراطيات غير الناضجة مثل تركيا أكثر من غيرها. وتعود أصول هذا الاتجاه إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين وأوائل الثمانينيات حين بدأ الشكل الليبرالي للرأسمالية بالظهور وبتدمير التوازن الراسخ بين الدولة والسوق بعد الحرب العالمية الثانية.
لم تكن تركيا يوماً ديمقراطية مثالية، فقد شهدت ثلاثة انقلابات في تاريخها الحديث (1960 و1971 و1980). وكانت عملية الدمقرطة في الثمانينيات والتسعينيات محدودة. وعلى الرغم من إحراز بعض التقدّم من حيث الحد من فائض السلطوية، لم يحصل المواطنون على كامل حقوقهم كي يقوموا بدور ناشط في التقدّم السياسي. وبدلاً من ذلك، ومنذ بدء الإصلاحات النيوليبرالية في ظلّ الحكم العسكري في عام 1980، كان النظام السياسي يقوم على عدم تسييس المجتمع وإضعاف المجتمع المدني وتقليص الديمقراطية إلى مجرّد المشاركة في انتخابات حرة.

إصلاحات حزب العدالة والتنمية
بعد الأزمة الاقتصادية التي شهدتها تركيا في 2001، طبقت إصلاحات نيوليبرالية أكثر عمقاً قادت بالنتيجة إلى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. ومنذ عام 2002، يحكم تركيا النظام الليبرالي للحزب الذي اكتسب الكثير من خصائص الهيمنة. وعلى الرغم من أنّ الحزب أنهى وصاية الجيش على السياسة، إلّا أن تركيا ابتعدت جذرياً عن الديمقراطية. وكان المجتمع قد بدأ يتحوّل إلى مجتمع غير مسيّس وتمّ تحييد الشرائح المنظّمة للمجتمع المدني، ما سهّل على حزب العدالة والتنمية بناء نظام استبدادي. وفي الواقع، مع تراكم التأثيرات السلبية للسياسات النيوليبرالية، كانت تركيا قد تحوّلت فعلاً إلى أرض خصبة للشعبوية الاستبدادية. لذلك يجب النظر إلى حزب العدالة والتنمية وإلى أردوغان على أنّهما منتجان ومروّجان للنيوليبرالية.
تأسس حزب العدالة والتنمية أساساً على يد رأسماليين ريفيين متدينين من أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وطبقات وسطى مهنية محافظة دينياً حديثة الظهور. غير أنّه من حيث الأصوات الانتخابية، يعتمد الحزب بشكل رئيسي على قطاعات غير منظمة وغير رسمية وطرفية من الطبقات العاملة في المناطق الحضرية والريفية. ونجح الحزب في جذب هؤلاء الأشخاص عن طريق إزالة الصفة السياسية عن هويتهم الطبقية. فقد كانت هذه الشرائح التي تعرّضت للإهمال من الحكومات السابقة، عرضة لأنواع جديدة من الفقر بسبب السياسات النيوليبرالية. لذلك كان من السهل على الحزب بفضل الازدهار الاقتصادي، الحفاظ على تحالفاته السياسية خلال فترة 2002-2007. ولم يرضِ النموذج الاقتصادي النيوليبرالي المستقر مالياً والموجّه نحو الاستهلاك، الجماعات الرأسمالية فحسب، بل أفاد الفقراء والمهمشين في المجتمع أيضاً. فقد نجح حزب العدالة والتنمية في وضع القناع على سياساته النيوليبرالية والمناهضة للعمالة بنجاح من خلال برامج جديدة لاجتثاث الفقر وتدابير حماية اجتماعية ممزوجة بتصوّر إسلامي للعدالة الاجتماعية. وبالفعل، بدا الفقراء رابحين نسبياً من هذه السياسات ولهم مصلحة في بقاء الحزب بغض النظر عن مدى تحوّله إلى حكم استبدادي.
لم يضعف كلّ ذلك القدرة التنظيمية واستقلالية الطبقات العاملة فحسب، بل خلق رعاية سياسية أيضاً. وهكذا نجح الحزب إلى الآن في استيعاب وإحباط أي مقاومة محتملة لسياساته النيوليبرالية. وفي ظل هذه الظروف، كان مستحيلاً ظهور المزيد من الحركات التقدمية المعارضة.

تأثير الأزمة العالمية
حين وصلت تأثيرات الأزمة العالمية إلى تركيا لا سيما بدءاً من عام 2010، بدأت البلاد تُظهر إشارات على الاقتراب من حدود النمو الاقتصادي الذي يغذّيه الاستهلاك والمدفوع بالعجز. وبالتالي فإن ما يطلق عليه حزب العدالة والتنمية «النيوليبرالية الاجتماعية» أصبحت مُنهكة أكثر فأكثر وتنامت نزعتها الاستبدادية. فأولاً، شهدت البلاد القمع العنيف لانتفاضة غيزي في حزيران/يونيو 2013 ومن ثم الانقلاب العسكري الفاشل في 14 تموز/يوليو 2016. وقد تلى محاولة الانقلاب، في ظل حالة الطوارئ المستمرة، تسريح أكثر من 100 ألف شخص من وظائفهم وسجن أكثر من 50 ألف آخرين بينهم العديد من الصحافيين والسياسيين من حزب الشعب الديمقراطي الكردي المعارض. كذلك تم توقيف آلاف الأكاديميين عن العمل وإغلاق العديد من وسائل الإعلام الإخبارية ومنظمات المجتمع المدني. وأصبح الإعلام تحت سيطرة القواعد المؤيدة للحكومة. وبالمحصّلة، أصبحت تركيا اليوم بحسب فريدوم هاوس «غير حرة» من حيث وضع الحريات المدنية.
تركيا التي كانت تعتبر يوماً نموذجاً يُحتذى به للبلدان النامية الأخرى بفضل تطورّها السياسي والاقتصادي، أصبحت الآن مثالاً على الانهيار الديمقراطي الذي سهّلته النيوليبرالية


ولم تقُد الانتخابات الأخيرة إلى تحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي فحسب بل أيضاً إلى اكتساب أردوغان سلطات جديدة ساحقة، بينها سلطة تعيين الوزراء وإقالتهم وتسمية 12 من أصل 15 عضواً في المحكمة الدستورية وحلّ البرلمان وإعادة إجراء الانتخابات كذلك يمكن أن يبقى في الحكم لـ12 سنة أخرى. واليوم تحوّلت تركيا في ظل غياب أي رقابة من هيئة تشريعية أو قضائية أو المجتمع المدني أو الإعلام الحر، إلى ديكتاتورية انتخابية. وفي الوقت نفسه، ارتفع معدل التضخم السنوي إلى 15.39% (حزيران 2018)، وهو أعلى مستوى منذ عام 2014. كذلك فقدت الليرة التركية أكثر من 20% من قيمتها حتى الآن في العام الجاري. وبلغ عجز الحساب الجاري مستويات قياسية (57.6 مليار دولار على أساس سنوي في أيار/مايو 2018، أي ما يعادل 5.6% من الناتج القومي الإجمالي). وفي غياب استقلالية البنك المركزي ومع تعيين صهر أردوغان وزيراً للمالية، تشهد السوق التركية هروب المستثمرين الأجانب. وفي ظل الاقتصاد التضخمي، لم يعد من الممكن الحفاظ على النمو من خلال ضخ السيولة. لذلك يبدو أن الاقتصاد التركي على شفا أزمة أخرى. وبالتالي، فإن تركيا التي كانت تعتبر يوماً نموذجاً يُحتذى به للبلدان النامية الأخرى بفضل تطورّها السياسي والاقتصادي، أصبحت الآن مثالاً على الانهيار الديمقراطي الذي سهّلته النيوليبرالية.
ترجمة: لمياء الساحلي
www.socialeurope.eu

*حائزة شهادة دكتوراه من جامعة بيتسبرغ في الشؤون العامة والدولية. هي أستاذة مساعدة في برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الشرق الأوسط التقنية، فرع شمال قبرص.