حسن خليل *لم يعد بمستطاع هاري سميث إصلاح نوافذ بيته في اسكتلندا، لأن همّه هو سداد فوائد قروضه المتراكمة. كذلك يفعل الآلاف مثله. لذلك أغلق مصنع النوافذ وخسر حوالى 5000 موظف عملهم. هذا مثل بسيط في منطقة صغيرة من العالم. ماذا لو لم يتحوّل العالم إلى قرية صغيرة نتيجة العولمة السريعة؟ ماذا سيحصل في حال عودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية لتذكّر بالاتحاد السوفياتي سابقاً؟ هل الشرق الأوسط في وضع أفضل أم أسوأ بعد الأزمة العالمية؟
يمكن إدراج مئات الأسئلة في السياق نفسه ولا من أجوبة مؤكَّدة لسبب بسيط: لم يكن أحد في العالم، بمَن فيهم أقصى المتشائمين، يتوقع أن يتغيّر العالم بهذه الديناميكية وخلال أشهر معدودة.
وماذا إذا ما تعرّضت الولايات المتحدة لأزمة مالية وانكماش اقتصادي؟ الجواب ليس ببساطة السؤال. فهذا البلد ذو الـ300 مليون نسمة ما زال المستهلِك الأول في العالم والأكثر قدرة على إغلاق أبوابه أمام العالم، لتنهار الصادرات الآسيوية وأسعار المواد الأوليّة...
هل باراك أوباما ساحر جديد سيُخرج الأرنب من القبعة في اللحظة المناسبة؟ عسى ألا يتوهّم أحد ذلك، فالأزمة الأخيرة أكبر من زعيم تاريخي ودولة كبرى حتى بحجم أميركا (هي الضحية الكبرى)، والتبعات السياسية ستكون كارثية في العديد من مناطق الهدوء والتوتر في العالم.
لقد خسر الروبل الروسي في الأشهر الثلاثة الماضية حوالى 20 في المئة، وهو أفضل حالاً من اليوان الكوري (23%) والبيزو المكسيكي (24%) والراند الأفريقي والريال البرازيلي (30%)، وانخفضت البورصات في أقصى سرعة وحجم منذ 1987، ولكن بأضرار مضاعفة عن السابق (ما بين 40% ـــ 70% حتى اليوم)، أوكرانيا، الباكستان وهنغاريا طلبت رسمياً العون المالي من صندوق النقد. دولتان مثل تركيا وكازاخستان لن تستمرا مالياً من دون دعم خارجي مستمر، ودول منعزلة مثل إيران ودول الخليج تعتمد على سعر النفط.
لقد بدأت أصوات تعلو منذ الآن تندّد بالنظام الرأسمالي، وبأن النظام الإسلامي هو الأصحّ. هل ممكن تصوّر ارتفاع العصب الإسلامي في أفغانستان وتركيا والباكستان وإندونيسيا إذا تعرّضت لمصاعب اقتصادية؟ ما علاقة أسعار المواد الأوليّة بالاستقرار السياسي؟
دول عديدة مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية تصدّر موادها إلى جنوب شرق آسيا للتصنيع، وهي بدورها تصدّر بضائع منتجة إلى الولايات المتحدة وأوروبا للاستهلاك. إذاً هي حلقة متواصلة تتعرّض للانهيار نتيجة الإقراض الرأسمالي المفرط الذي أدّى إلى استهلاك لا معقول.
بالنسبة لإيران ودول الخليج، هناك مدرستان فكريتان: الأولى تعتقد أن تخفيف الضغط العسكري على الجيش الأميركي في العراق وضغط المالية العامة في أميركا على الموازنة سيؤدي إلى نوع من توافق بين إيران وأميركا لإدارة مشتركة في العراق والمنطقة. طبعاً المدرسة الأخرى ما زالت تحلم بضربة أميركية لإيران تكون مخرجاً لأميركا من أزمتها، وتعيد رسم توازن القوى. يغيب عن بال هؤلاء أن العالم كلّه، بما فيه أميركا، يتخبّط في أزمة لا أحد يعلم كيفية الخروج منها أو حتى إدارتها بدون حرب شرق أوسطية، فكيف إذا ما وقعت هذه الحرب؟ ستكون دول مثل إيران والدول النفطية وروسيا المستفيدة منها نتيجة ارتفاع أسعار النفط مجدداً.
في كلتا الحالتين، وللأسف، يزداد ابتزاز الواقع المذهبي لمصلحة الأطراف المختلفة. فتَحْتَ عنوان الصراع الشيعي ـــ السنّي ستُستغلّ الضائقة المالية في مجتمعات كباكستان وتركيا من جهة، وتركيا من جهة، وإيران والعراق ولبنان من جهة أخرى، لتأجيج التنازع الإقليمي على النفوذ. فالمنطقة أصبحت محكومة من عائلات تقود وتستعمل المستحيل للحفاظ على ثرواتها ونفوذها، (ولو تحت ستار جمهورية، أو أميرية، أو ملكية أو سلطانية، أو مشيخة...).
والمخيف أن حدود الصراع الإقليمي (تحت غطاء التباين المذهبي) غير معروف، وقد يصل حتى حدود شرق آسيا مروراً بتركيا وأفغانستان وأذربيجان حتى روسيا.
أهم ضحية للأزمة الأخيرة هي الطبقة الاجتماعية المتوسطة التي نمت بشكل ممتاز في دول مثل روسيا والهند والصين وماليزيا وتايوان ودول أميركا اللاتينية.
بعض هذه الدول أفلست مرة أخرى كالأرجنتين، وبعضها الآخر سيضطر للاكتفاء بتطوير اقتصاده الداخلي كالبرازيل. ولكن الأهم من هذا كلّه أن الضربة التي تلقتها الطبقة المتوسطة هي إشارة إلى عودة القلق الأمني وعودة ظهور المافيات في العديد من الدول.
أخيراً وليس آخراً، أخطر ما يحصل اليوم هو انهيار عملات محلية، طبعٌ نقديُّ مستمر للقوى القادرة، وتراجع في تحويل العاملين في الخارج إلى وطنهم (لبنان، مصر، المكسيك، الفلبين، سريلانكا، الهند). كل هذه هي إشارات مقلقة، وما من أحد يستطيع الإجماع على النتائج.
من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، ومن أوروبا إلى أميركا، ومن ألاسكا إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا، العالم يتغيّر بسرعة. ولا يتوهمّنَّ أحدٌ أن المشاكل الاقتصادية تلهي عن الصراعات العسكرية، بل على العكس أحياناً.
تكتلات جديدة تظهر إمّا سياسية أو اقتصادية. وقد لاحظنا لجوء إيسلندا إلى روسيا مالياً، وإنشاء تكتل روسي ـــ فنزويلي نفطي جديد للتنقيب في فنزويلا. مستقبلاً، وليس بالبعيد، حلفاء لن يكونوا كذلك، وأعداء أو نُقضاء الماضي لن يكونوا كذلك.
الأكيد أن كتب التاريخ منذ الآن ستكون أغنى مادة من تلك التي كُتبت عن السنوات العشرين الماضية. وعسى أن نقرأها، لا أن تأتينا بالغيبيات.
ماذا عن الصين؟
* ناشر «الأخبار»
وشريك تنفيذي في «WMG GROUP»