لمن يهمه الأمر: لدينا مفتّش عمل واحد.. وحيد في وزارة العمل، يتخصّص بمراقبة استيفاء شروط السلامة العامّة في أبنية العاصمة كلّها. معلومة مثيرة للاهتمام؟ في مرحلة أولى. ومثيرة للرعب، ما إن تفكر ولو قليلاً بكمية المهمات التي من المفروض أن يقوم بها. لكن قمة «الإثارة»، في أن يكون هذا المفتّش، واسمه مروان خدّاج، المسؤول أيضاً عن المهمات نفسها في... خمس محافظات أخرى!
راجانا حمية
لا تنقطع الحركة في أروقة وزارة العمل في منطقة المشرّفيّة. ففي كلّ يوم، زوّار جدد لوزارة، يعيش موظّفوها الصخب منذ صباحهم الباكر حتّى الثانية ظهراً. الديكور يوحي بالجدّية، لكن هل هناك جدية في أهم قطاع من شأنه الحفاظ على سلامة العمال والمواطنين في الأبنية قيد الإنشاء؟ والجواب: بالطبع لا.
فلنبدأ القصّة من مدخل الوزارة، وتحديداً من اللائحة المعلّقة عند الباب التي تحدّد اختصاصات المكاتب. في هذه اللائحة، ثمّة اختصاص لا يقصده كثيرون، وقد لا يقصده أحد، واسمه «جهاز الرقابة والتفتيش والسلامة العامّة». تتوزع مكاتبه بين الطبقتين الثانية والثالثة. في الطبقة الثانية، معظم مفتّشي العمل في الوزارة، ومن بينهم المهندس مروان خدّاج، المفتّش الوحيد في سلامة العمّال وحوادث العمل في الورش والمنشآت في خمس محافظاتٍ لبنانيّة! وظيفة على «مساحة الوطن»، كما يحلو لخدّاج وصفها. أما كيف أصبح خداج «متوّجاً» كمراقب وحيد لسلامة المواطنين العامة في خمس محافظات؟ فحكاية لوحدها. لكن، وقبل الحكاية هل يكفي أصلاً مفتش واحد في المحافظة الواحدة؟ ثم، ومع كل هذه «الأثقال»، هل يستطيع المهندس المفتش أن يقوم بعمله الضخم في المحافظات الخمس؟ وإن كان قد وافق مرغماً على أداء أربع مهمات، إضافة إلى مهمّته الأساسيّة في بيروت، من يتحمل مسؤولية الإخلال بكل هذه المهمات؟ أم إن النية ليست موجودة أصلاً لا في المراقبة ولا في المحاسبة؟
يقضي مروان خداج معظم أوقاته في مكتبه كما قال لـ«الأخبار» منشغلاً بالبحث عن أخبار حوادث العمل في المواقع الإلكترونيّة والصحف. وفي البيت، حيث من المفترض أن يكون برفقة عائلته، يختار البقاء في مكتبه حتى موعد النوم «المتأخّر جدّاً» عن موعد العائلة.
خلال اللقاء معه، بدت لهجة «قداسة المفتّش» مرّة ويائسة. فهو ما عاد قادراً على تكرار «قصّة السلامة المخروقة للمرّة المليون». لكن، كان لا بدّ من إجباره على الكلام.
يستعيد اليوم الذي تقدّم به إلى مباراة مجلس الخدمة المدنيّة لوظيفة مهندس مفتّش في الوقاية من الحوادث والسلامة العامّة منذ 14 عاماً. يومها، لم يكن قد مرّ على هربه من الكويت، التي كان العراق قد اجتاحها، سوى بضعة أشهر. نجح الشاب في المباراة، إلا أنّ فرحه بالنجاح لم يكتمل، فقد شعر بأنّ الوظيفة التي يقوم بها في الوزارة لا تشبه ما هو منصوص عنه في القانون. اكتشف الاختلاف بين القانون الذي يفرض على الموظّف مراقبة سلامة العمّال في الأبنية والمنشآت، ومراقبة تراخيص المؤسسات دورياً، وبين انتظار قرار رئيس الدائرة للتفتيش الذي قد يأتي أو لا يأتي في الكثير من الأحيان. سنوات، عاشها خدّاج على المنوال نفسه. يصل إلى مبنى الوزارة عند السابعة صباحاً. يمشي في باحتها حوالى نصف ساعة، بانتظار أن يُفتح الباب، ويبقى في مكتبه حتّى الثانية ظهراً. دوام. والاستثناء الوحيد الذي قد يخرق أيّامه المتشابهة هو تكليفه «فجأة» وبأمر «من فوق» بضرورة تفتيش مكانٍ ما في بيروت. لكن، هذا ليس كلّ شيء. فمنذ 4 سنوات زادت «مهماته» لتشمل إضافة إلى جميع أبنية العاصمة بيروت ومؤسساتها، مؤسّسات محافظتي الشمال والبقاع، بعدما «هرب» موظّفوها إلى إدارت أخرى، وعكّار وبعلبك ـــ الهرمل، وهما محافظتان جديدتان، لم يصدر بعد قرار بتأمين مفتّشين لها: لا مهندسين مفتّيشين ولا أطبّاء مفتّشين أيضاً. أمّا محافظة جبل لبنان، التي «تقاعس» عن أداء مهمّة إضافيّة فيها رغم خلوّها من مهندس مفتّش، فقد ارتأت الوزارة الاستعاضة عنه بمفتّش طبيب! ما يخالف المرسوم 11802 المتعلّق بـ«تنظيم الحماية والوقاية والسلامة في البناء»، الذي ينصّ على ضرورة أن تحوي كلّ دائرة مسؤولة عن التفتيش في كلّ محافظة مفتّشيْن، أحدهما مهندس عمل والآخر مهندس طبيب.
أمّا الطامّة الكبرى، كما يصفها خدّاج، فهي، في محافظة بيروت نفسها، ميدانه الأساسي. فهذه المفتّشة الطبيبة، عاجزة عن ممارسة مهماتها، لأسباب صحية، ما استدعى قراراً استثنائياً بالاستعانة بالمفتّش الطبيب المسؤول لمنطقة البقاع!
وما يؤلم خدّاج أكثر، أنّه مكبّل في أداء مهماته، إذ ينتظر «الوحي» الذي ينزل عادة بطلب من رئيس الدائرة. وحتى «يأمر، يقول، يكون قد مرّ حوالى 3 أشهر من دون عمل»، رغم أنّ القانون يُجبر المفتّش على القيام بالتفتيش بشكلٍ دوري وطارئ في كل المؤسسات الخاضعة لقانون العمل وفقاً للتشريعات الوطنيّة والاتّفاقيات الدوليّة، وهو «ما لا يحصل هنا»، كما يشير خدّاج. وجلّ ما يطلبه هذا الموظّف، كما يقول، أن يمارس مهماته بحرّية. وقد لا يكون ذلك إلا من خلال «تعديل هيكليّة الوزارة، وإنشاء دائرة متخصّصة بالمراقبة، لا تكون خاضعة كما الآن لدائرة لا علاقة لها بما يُسمّى وقاية وسلامة».
إذاً في الواقع، لا عمل في وزارة العمل لمفتش السلامة العامة. ما الذي يفعله إذاً هناك؟ يقول «أحضّر كتاباً عن السلامة العامة في لبنان من خلال ما عشته خلال 14 عاماً، سأصدره بالإنكليزية». وماذا عن عمله الأصلي لا ..ككاتب؟ هل يبقى «عاطلاً» مقنعاً، بما يعنيه ذلك من مسؤولية أدبية ولو أن المحاسبة غير موجودة؟ يبدو أن السؤال يشغل بال خدّاج: «أبقى كما أنا بانتظار الهجرة». الهجرة؟ يقول خداج إنه تقدّم بطلب إلى السفارة الكنديّة، لعل في العمر المهني متسعاً «لعملٍ آخر في اختصاصي كمهندس بتروكيمياء»، الذي يكاد ينساه.
أما السلامة العامة للبنان؟ فلها الله، في كل المحافظات.