خضر سلامةأنا من هذه الأرض: بلادٌ عصافيرها تغني حين يأمرها شاعرٌ كمحمود درويش بذلك: «غنّي قليلاً يا عصافيرُ»... غنّّي لأجل السماء، لأجل البقاء، لأجل ألا يندثر الغناء... بلادٌ شعراؤها أنبياء، رجالها فلاحون طيبون مقاتلون لا يلينون، ونساؤها يعرفن كيف يصبح قطاف الزيتون أول درس في الثورة وحب الثرى.
تقول القصص الآتية في سلة تين، إن التراب بقايا من عيون الشهداء وإن «الختيار في البيت بركة»، والأطفال النائمين تحت لحاف القنابل يصبحون وروداً لا يخنقها تشرين حين يأتي حزيناً...
أنا من هذه الأرض، من الجنوب.
هناك أكتب، كي أتأكد من جذري الضارب في عنق اللون الأحمر.
في الجنوب محبرةٌ كافيةٌ لنظم قصيدةٍ تولد عند أقدام حرمون، ترتشف القهوة من شفتي صافي، وتودع قدميها في موج البحر، كأي طفلة جنوبية نهار العيد، تتكحل بلون الليطاني، وترقص كشتلة تبغ يغريها النسيم العابر فوق وجنتيك بالضوء الأصفر في حقول القمح، فتمهل قليلاً، فتّش عن زاوية ترسم فيها خارطة الجنوب محراباً، ثم اركع على ضفة نسيم عابر كفارس من زمن جميل، من زمن «الانتصارات».
كل شيء يستحق الكتابة، شوارع النبطية تضج بأسماء عابريها، صور ترمي ألف قرطاج كل يوم على الورق، صيدا تختال بكورنيش يركض صوب الغروب، وابنة أدونيس، بنت جبيل، ساجدة لهضاب فلسطين، مرجعيون تقبض على فم السهول، كل القرى لها الطعمة نفسه في فنجان الانتماء، طعم الهوية.
هاتوا طيور الفينيق تتعلّم كيف تكون القيامة من بين الركام عادةً وجينة تتوارثها الوديان، مخرز إسرائيل تكسره أعين البنادق الشاخصة إلى صدر فاشي، ورسائل الخراب تحيلها أصابع التلامذة تراتيل مجد، يخرجون بعد كل غارة، يكنسون عن وجه الأرض رمادها، وينحتون في الصخر عنواناً للربيع، هاتوا العالم ليأخذ أوراقاً ثبوتيةً للحضارة من كفيّ عجوز يمشط شعر السنابل، هاتوا جيوشاً غازية لتنكسر هنا... هاتوا كل ذلك إلى فيء صفصافة لا تعرف الهرم..
في الجنوب أيضاً، نبيذ المسيح ينبض في كل الشرايين ثمالةً بكل الجمال، وصوت أبي ذر ما زال أذاناً جميلاً يصدح في أفواه الفقراء الذين لا يسكتون على الضيم.. في الجنوب قديسون كثيرون، سمرٌ زنودهم، يجبلون الحَب بالحُب، ويرتجلون العتابا، قديسون يمسكون قلماً بيد، وسيفاً بيد، ويعلقون في أعناقهم سلاسل من شقائق نعمان تشدهم إلى قفص الرحيق، في الجنوب بابٌ به عينٌ صغيرة، لها ألف رمش على شكل خارطة الجليل... من هنا الجلجلة تخرج، وفي القدس تحط الرحال.
أن يبتسم لك القدر مرة، فيصنعك طفلاً من جذع صنوبرة جنوبية، يعني أن تنبت إعصاراً في وجه عصر القحط العربي، أن تتقمص في قالب جنوبي لمرة واحدة، يعني أن تكون قطرة ماء في ملامح هذه الصحراء الممتدة بين أضلاع جيوش الردة وأقلام المرتدين، أن تكون جنوبياً يعني أن يسقط معولك فوق أضرحة الأبطال المذبوحين غدراً منذ زمن عنترة... ليبعث فيهم معنى الحياة، وأن تصير كلماتك سجادة صلاة لكل الباحثين عن حرية.
لشتل التبغ، لبيادر القمح، للمزارعين الغارقين في رحيق السهول، للمرابطين خلف كل غيمة، للراقصين على وقع ناي راعٍ يركض خلف أحلام القطيع: أنا أنتمي.