ورد كاسوحة *ما قيل في زيارة النائب ميشال عون إلى سوريا كان كثيراً و«فائضاً عن الحاجة». ينطبق ذلك على الأطراف التي «انتقدت» الزيارة والتي «مالأتها» على حد سواء. وإذا كانت الانتقادات قد صدرت مشفوعة بكثير من التضليل والتحريف والتعبئة الانتخابية السيئة الإخراج، فإن الإفراط في الامتداح لم يكن بخيار صائب هو الآخر، ولم يسعف المراقبين في تلمس بديل آخر عن التغطية الإعلامية «السيادية» التي يمكن الاعتداد به.
ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في المواكبة الإعلامية التي غلّبت الوجه «الديني» «الإحيائي» للزيارة على أوجه أخرى (وطنية وعلمانية)، كان الأجدى بمنظمي الزيارة من السوريين والعونيين الالتفات إليها أكثر، وتسليط الضوء على حقيقتها، بدلاً من الاكتفاء بإظهارها على نحو إنشائي و«عابر» في خطاب عون أمام طلاب جامعة دمشق، وإن كان يُسجَّل للرجل في هذا الخطاب اختراقه للأدبيات اللبنانوية المقيتة والنمطية تجاه الفلسطينيين، وإظهاره إياهم (للمرة الأولى في الخطاب المسيحي التقليدي، وهذا تطور لافت يجب عدم إغفاله) كأصحاب حق في العودة إلى أرضهم، لا كموضوع مبتذل للمزايدة السياسية الرديئة والمفرطة في توسّلها أدبيات عنصرية كالتوطين ونقض الحق في العمل والعيش والتملك...
وقد أتت «المرافعة السياسية» لعون في جامعة دمشق لتنقل الرواية اللبنانوية التقليدية عن الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي من ضفة إلى أخرى، تماماً كما فعلت مع واقعة حرب تموز، ولكن من دون أن تحدث قطيعة كاملة مع الوعي اليميني (المسيحي) المحافظ الذي تصدر عنه. وعي ما يزال مصراً على «تحييد» القابلة الغربية لإسرائيل (أميركا) عن استهدافاته المستجدة، وبالتالي التعاطي معها من موقع الخصومة المؤقتة لا من موقع العداء الأنتي ـــ كولونيالي كما يفعل عادة أنصار اليسار الراديكالي. ذلك أن البيئة اللبنانوية التقليدية التي أتى منها عون إلى السياسة لا تحتمل عداءً منقطع النظير لسياسات الولايات المتحدة. عداء من شأنه أن ينقلب على مصالح الانتشار اللبناني التقليدي المتجذر في تلك البلاد، وهذا أمر لا طاقة لا لعون ولا لغيره عليه. وكان يجدر بالتغطية الإعلامية للزيارة، سواء المكتوبة منها أو المرئية، أن تفسح مجالاً أكبر لهذا الجانب، أي جانب «التطور في الخطاب العوني» تجاه القضية الفلسطينية، بدلاً من إغفاله بهذه الطريقة، والظهور بمظهر من يواكب رحلة حج إلى «الديار المقدسة» لا رحلة سياسي خاصم «السوريين» و«الفلسطينيين» (النظام ومنظمة التحرير) عقوداً، ثم عاد «ليصالحهم» بعدما أدرك أنهم عمقه الاستراتيجي والتاريخي الوحيد.
والحال أن عنواناً وطنياً ونقدياً كهذا كفيل وحده بإكساب «المصالحة العونية» مع العمق المسيحي المشرقي بعدها الحقيقي، من دون الحاجة إلى توسّل عناوين توفّر لمناوئي التيار الوطني الحرّ مادة دسمة لإشباع نهمهم المذهبي والطائفي المفرط. حينها فقط، وبعد تذليل هذا الحاجز «الوهمي»، يغدو مشروعاً جداً الحديث عن العودة إلى الينابيع والجذور، سواء في دمشق أو في حلب أو في حمص أو في غيرها من المدن السورية الأخرى. ولعل أفضل ما في الزيارة هو ذلك الظهور المدني للحواضر السورية أثناء مرور العماد عون بها بعيداً عن الاعتبارات الأمنية ذات الطابع القسري. فلأول مرة ربما يظهر السوريون هذا القدر من «العفوية» في إطراء زعيم سياسي من خارج الحدود، وغمره بهذا الدفق من العواطف غير المألوفة بالنسبة لمراقب محايد ينظر إلى الحراك السياسي السوري بعين الريبة والحذر.
وهو سلوك عادة ما يقابل به فنانون انقطعوا طويلاً عن الجمهور، كحال زياد الرحباني عندما حطّ في دمشق بعد انقطاع دام ثلاثين عاماً، ولكن انسحابه ـــ أي السلوك ـــ على حالات سياسية مثيرة للجدل كحالة عون، إنما يشير إلى «تغيّر حقيقي» في وعي السوريين لمعنى السياسة. تغيّر نأمل أن ينسحب بدوره على حالات سياسية ليست على هذا القدر من «التوافق» مع النظام حالياً، لا بل نطمع أيضاً بأن تصيب عدوى هذا «التغير» سلوك السوريين تجاه أقطاب المعارضة السورية الوطنية في الداخل والخارج. وما زاد في تأصيل البعد الشعبي للزيارة هو اعتراف كثير من أعضاء الوفد اللبناني، وإن بشكل غير مباشر، بأن التنميط اللبنانوي المزمن للحالة السورية قد حال دون رؤيتهم أطياف المجتمع السوري كما هي فعلاً، لا كما أظهرتها ممارسات أمنية سابقة في لبنان أساءت إلى السوريين تماماً كما أساءت إلى اللبنانيين وأمنهم الجمعي. فأين مشهديتا عنجر والبوريفاج المؤلمتان والمريرتان من تلك المشاهد التي ظهر بها عون وهو يجول في أرجاء دمشق القديمة وصيدنايا ومعلولا وحلب وحمص؟
والأمر الذي يتغافل عنه كثير من اللبنانيين هو أن إفراطهم في تنميط الواقع السوري وتصويره على أنه محض نسخة مكبرة عن عنجر (ZOOM OUT على حد تعبير «ثوار الأرز») قد نقلهم من مرتبة «الفرد الحر» إلى مرتبة أخرى هي أقرب إلى التنميط منها إلى أي شيء آخر! بكلمة أخرى، لقد باتوا أسرى هذه الصورة التي صنعوها في 14 آذار 2005، ولم يعودوا يكلّفون أنفسهم عناء مراجعتها أو التدقيق فيها على أقل تقدير. فقد سلّموا ذواتهم منذ الخروج السوري من لبنان لبروباغندا رديئة و«خبيثة» لا تتوانى عن الخلط بين العامل السوري الذي ساهم في إعمار «سوليدير» (وليته لم يفعل) وضابط الاستخبارات الذي كان ينكّل باللبنانيين صباح مساء في البوريفاج! كيف يمكن لصورة كهذه أن تصنع «ثورة» و«استقلالاً» وتفتح جسراً من التواصل مع شعب بأكمله؟ شعب لم يسأله أحد رأيه لا في اختيار نظامه، ولا في دخول قوات
الردع السورية (لا العربية) إلى لبنان عام 1976.
وإذا كان هناك من فضيلة لزيارة عون فهي «إعادة اكتشاف» هذا الشعب، وتحريره من وطأة الصورة العنصرية والبغيضة التي رسمها له «ثوار الأرز». صحيح أن النظام الذي يحكم هذا الشعب هو ذاته كما قال وليد جنبلاط في نوبته الجديدة (يبدو أن الزيارة قد أفقدته توازنه مجدداً)، لكن قدرته على الضبط قد تراجعت كثيراً، ولن يكون بمقدوره لا هو ولا أي نظام استبدادي آخر في المنطقة والعالم أن يضبط «حراك شعب» بأكمله، أو أن يسيّر تظاهرات دعماً «لحليفه» العوني الجديد. فهذه نكتة سمجة لم تعد تنطلي على أحد، ولا يمكن صرفها إلا في نظام قروسطي ومفرط في ديكتاتوريته كنظام كيم يونغ إيل. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى الصفحة الأقلوية الآفلة التي طواها عون مؤقتاً ريثما تجري «إعادة النظر» في كتاب المارونية السياسية بمجمله. فهذه الأخيرة بنت مجدها بأكمله على استعداء الحالة السورية، مهما كان النظام الذي يحكم باسمها. صحيح أن شهراً من العسل قد جمع بين المارونية السياسية والبعث إبان الحرب الأهلية حين اتفقا على التنكيل المزدوج بالحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية، لكنه كان حلفاً براغماتياً لم يلبث أصحابه أن تفرقوا بمجرد هبوب رياح كامب ديفيد على المنطقة. والحلف ذاك كان حلفاً مع النظام لا «تصالحاً» مع شعب لم يفكر يوماً بيار الجميل الجد وكميل شمعون بأن يضعا خارطته الديموغرافية على لائحة أولوياتهما التي ما برحت تنزح صوب الغرب الكولونيالي و«الجنوب الإسرائيلي».
فبخلاف رموز المارونية السياسية هؤلاء، أتبع النائب عون «حلفه» الجديد مع النظام في دمشق «بالتصالح» مع أطياف الشعب السوري، وهذه خطوة لم يسبقه إليها أي زعيم ماروني في لبنان. فالتجارب السابقة علّمت السوريين واللبنانيين معاً أن قصر العلاقة مع سوريا على النظام فقط من دون انفتاح مقابل على الشعب لا يمكن له إلا أن يقودنا إلى قعر سحيق كهذا الذي نحن فيه الآن، ولمّا نخرج منه بعد. وحسناً فعل زعيم التيار الوطني الحر حينما طاف في الشوارع والساحات «مصافحاً السوريين»، ومادّاً لهم يداً من شأنها القطع ولو جزئياً مع إرث كامل من الضغينة والكراهية وسوء الفهم بين البلدين. وفي طوافه الجماهيري ذاك، تأكيد غير مباشر أنه ليس في وارد تجديد دأب لبناني قديم على قرع أبواب قصر الشعب لأخذ البركة وملء الخزان الانتخابي كلّما شارف على النفاد. على أي حال، لا يضير العماد عون في شيء إن متّن تحالفه مع حزب الله وتيار المردة وسواهما من «حلفاء» سوريا، ما دام قد اختار هذا الطريق بمحض إرادته منذ رجوعه إلى لبنان، وتبلور معالم التفاهم الذي وقعه لاحقاً مع حزب الله.
ولكن الامتحان الحقيقي يكمن في بقاء هذا الاختيار بمنأى عن التورّط في ممارسات مافياوية سابقة انتهجها حلفاء لسوريا في لبنان (14 و8 آذار)، واستطراداً في الاستمرار بنهج «الإصلاح والتغيير» الذي بدأت ورشته في كثير من الوزارات التي يتولاها أعضاء من التيار الوطني الحر.
* كاتب سوري