مقهى يونس صار من معالم شارع الحمرا. الجلسة فيه عنوان للاسترخاء، أو للاستسلام لرائحة القهوة المحمّصة تتسرّب إلى الذاكرة وتتغلغل في القلب. يختفي المقهى في شارع فرعي، ويحتفل برواده المتنوّعين، خمسينيين ويساريين ولامبالين وعشاق صغار يتعلمون الحب والهروب من عيون الحشريين
سارة أسعد
إنها الحمرا، شارع الزمن الجميل والأحلام الذي لا يعرف حدوداً، وشارع الأحاديث المتنقّلة بخفّة الفراشة الملوّنة بين حكايا الفنّ والسياسة والفلسفة والثقافة. للمدن روائح مميّزة، قد يفوح منها عطر غريب لزهور هجينة عندما تلتقي يد الحبيبة الخجولة. للمدن روائح أبنائها، شعرهم، لونهم، وجوههم الهائمة وعيونهم الباحثة عن صديق وحيد. للمدن روائح، وللحمرا لصّ يتسلّل في الأنوف الحشريّة، للحمرا رائحة القهوة المنسابة من مفرق صغير يذهب بالحالمين نحو ... «مقهى يونس».
يتخذ المقهى من رصيف فرعي مكاناً له، فيتحول إلى مكان أليف يعبق برائحة لا تشبه غيرها. كراسٍ وطاولات خشبية تتسع لكلّ النّاس، تماماً كما يتّسع شارع الحمرا ـــــ وحده ـــــ للكمّ الهائل من الأفكار المبعثرة في رأس كاتب أو فنّان أو طالب «غريب الشّكل». في الدّاخل محيط لغير المدخّنين، تتوزع الجلسة فيه على طبقتين: الطبقة الأولى و«العلية». في الطبقة الأولى (يسمّيها الطابق الأرضي) حيث طاولات وأرائك مريحة، أما العليّة ففيها مكتبة متواضعة ولوحات لرسّامين محليين.
يقدّم المقهى أنواعاً متعدّدة من القهوة والشّاي والشطائر اللذيذة والحلويات، بأسعار أقلّ ما يقال فيها إنّها تسمح للمتسكّعين بالجلوس ساعات طويلة في المكان، والعودة إليه يوميّاً. شطائر الدّجاج مميّزة بنكهتها وحجمها المثاليّ، كذلك الحلويات التي تبدو منزليّة الصّنع والشّكل، لامعة تحت طبقات الشوكولا الشّهيّة. يقدّم الشّاي بأكثر من نكهة ولون، يختار منها المتذوّق ما يعانق مزاجه. أمّا القهوة، فلكلّ نوع بلد وقصّة، ولكلّ فنجان تجربة فريدة في متعة التذوّق، ترتقي بالحواسّ إلى درجة جديدة من مفهوم القهوة.
أمّا عن روّاد يونس، فتلك القصّة الكبرى. إذ يصعب تحديد شريحة واحدة يلاحظ وجودها في المكان. قد نصادف رجالاً في العقد الخامس من العمر، على طاولة واحدة أحياناً، يتسامرون حول القهوة الفاحّة بالأشعار والتّجارب، عندها يكون قد مضى من العمر ما يكفي لتتخّذ الذكريات مساحة أوسع من المشاريع المستقبليّة في الكلام. وقد نجد آخرين يعتبرون أنفسهم لفيفاً من «المتفذلكين» الذين يناقشون قضايا فلسفيّة قديمة ممزوجة بنظرة العارف الفاهم، تنتهي هذه النقاشات تحددياً ببسمة خبيثة، بسمة تخفي حزناً (دون كيشوطياً؟) على قضايا طواحين
الهواء.
قد نصادف شبّاناً وشابّات من «اليسار المثقّف» ضرورة لغوية تقارب الأسباب الوجودية، عندها تعود قضية فلسطين قبلة الثوار ومحور كل القضايا الإنسانية.
هناك، على مقاعد «مقهى يونس»، تختلط أخبار الجبهات المفتوحة مع آخر العروضات المسرحيّة وفناجين الشّاي المنكّهة بلحظة عجيبة. هناك يخبّئ البعض لامبالاة مصطنعة، ويخبّئ آخرون خوفهم من أن يجدوا أنفسهم بعد عشرين عاماً، في المكان نفسه، عند يونس، يعيدون الكلام نفسه، ويناقشون القضايا ذاتها على الرّصيف ذاته... ولكن بحماسة أقلّ.
عند «يونس» أيضاً يلتقي عشّاق صغار «تلطّوا» من النظرات المتطفّلة والأسئلة المستقبليّة لسرقة موعد ممنوع على فنجان قهوة، «متل الكبار». وجدوا في المقهى مساحة خالية من الأحكام المسبقة على فتاة صغيرة مبعثرة الشّعر الأحمر، تمسك باليمنى قلماً وورقة وباليسرى سيجارة، تتعلّم كيف تشعلها «بخبرة»، أي دون أن تبدو كالمبتدئين، وجنبها فتى ما زال يتسوّل شعراً في ذقنه بدل الزّغب الطائش الذي يسبق الرّجولة.
أمّا الأجانب المستكشفين للعاصمة، فلا تكتمل تجربتهم البيروتيّة قبل تذوّق القهوة عند يونس. إذ من المألوف رؤية مجموعات كبيرة من الأجانب تحتلّ الطّاولات الخارجية جنب حائط الرّسومات الكاريكاتيريّة.
لا تنتهي الجلسة عند يونس قبل وصول ناديا، تبيع ابتسامات مع ورودها المتعدّدة الألوان الملقاة في دلو. تعرف الزبائن بأسمائهم، بألوان عيونهم، بذوقهم في الأزهار. وهل أكثر جمالاً من أن نعرف النّاس من خلال الوردة الّتي تزيّن أمسيتهم؟
للأماكن أرواح وشخصيّات، ولـ«مقهى يونس» طبع غريب نسمّيه الصدفة، صدفة الالتقاء بصديق لا يملك هاتفاً ولا وظيفةً ثابتةً، يقرأ كتابه وحيــــداً، نقترب منه، فيلتفت دون انفعال ويقول «كنت ناطرك».
إنه مناخ أو إيقاع «مقهى يونس» يجعلنا نلقي التّحية الحارّة على الوجه المألوف جدّاً، نعرف أنّه يقرأ لوركا، نعرف نوع الدّخان الذي يمجّه بين الفصل والآخر، نعرف أنّ قهوته المفضّلة بنكهة القرفة، ونعرف أنّه يحبّ الزّهور الصفراء كثيراً. لكن هنا تعود «الأسامي كلام»، فلا يهمّ ما ينادي بعضنا بعضاً به في يونس، ما دام ما يجمعنا انتماءً لغير مسمّى، يجمعنا هوى يعود بنا إلى الحمرا، كالعودة إلى الحبيب بعد المطر، كالعودة إلى البيت بعد الأسر، كالعودة إلى أنفسنا بعد سنين في الغربة.
إذا حُرمت من الجلسة في يونس «تلصلص» على «رواد» مجموعته في «فايسبوك». نعم، صار للمقهى مجموعة في الشبكة الافتراضية.


معلم بيروتي بامتياز


تعترف الصحافية الإيطالية ماورا غوالكو بأن ما من شيء جذبها إلى الحمرا أكثر من «يونيس»، كما تسمّي المقهى، تروي أن فيه ما «يجعلك تتذكره أينما رحلت»، تضيف «إنها رائحة القهوة... ولكنها مع الوقت، حين نترك بيروت ونتجه نحو بلادنا أو إلى عواصم أخرى، نحتار في أمرنا، رائحة القهوة تغلغلت في ذاكرتنا، وصارت مرادفاً لبيروت».
الشابة التي صارت تعرف الحمرا جيداً، والتي حزنت لإقفال مقهى المودكا ثم الويمبي، مرتاحة. «يونس» احتل مكاناً لن تقع عليه عيون كارهي الأمكنة الجميلة.