محمد شعير
نحتار أمام مواقف عبد الرحمن الأبنودي. إلى جانب من يقف هذا الشاعر الإشكالي؟ أإلى جانب الإنسان البسيط‏ المنسحق أم إلى جانب «رجال الحكم»؟ هو نفسه يدرك هذا الالتباس: «(...) أنا الشيوعي يقول عليا: «حكومي»/ وأنا الحكومة تقول عليا: «شيوعي»/ وأنا بس واحد من بتوع الأدان». هذه الكلمات من أحدث قصائده «التوأم» التي يرثي فيها محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس.
لم يكن الوصول إلى منزله في الإسماعيلية (شمال القاهرة) صعباً. فهو لا يتركك لحظة، ويتابع عبر الهاتف خطواتك، بقدرته الهائلة على وصف الطريق. أمازحه: «ينبغي أن تكتب رواية»، فيفاجئني أنه يعمل الآن علي رواية «قنديلة»، تيمّناً بوالدته فاطمة قنديل، وقد قرأ أجزاءً منها على نجيب محفوظ قبل رحيله. البيت الذي يقيم فيه منذ عودته من رحلة علاج طويلة في ألمانيا، بسيط، على عكس ما يتصوّره بعضهم. «اشتريته منذ زمن، حين كانت الأسعار رخيصة. أزرع الحديقة بالمانجا، والباقي أسكن فيه». يعشق شاعر العاميّة اللون الأبيض، ويختاره لكلّ البيوت التي يسكنها. أما بيت أبنود، «فلم يكن له لون»، يضحك: «كان بيتاً بسيطاً جداً، لم نطلِه بأي لون».
الأبنودي ممنوع من التعرّض للبرد أو التلوّث، فالرئة «نسندها بزلَطة»، يقول. أثناء أحداث غزّة الأخيرة احترق جلده، فاحتار الأطباء في تشخيص الحالة. نصحه أحدهم بالتوقّف عن مشاهدة ما يجري في غزّة. «احترق جلدي عندما نزلت قنابل الفوسفور على أطفال غزّة». تأمّل في تلك الحرب وكتب قصيدة «غزة» من دون أن ينشرها. أستوضح أكثر فيحيلني على قصيدته: «جوّا الطعام طعامين/ جوّا الشراب شرابين/ دلوقتي بوستك بوسة ولا اتنين/ دلوقتي انت واحدة ولا اتنين/ كل الحاجات دلوقتي ليها طعمين/ وفي كل شيء شيء/ وكل شيء اتنين». «غزّة لها أكثر من وجه، المقاومة لها أكثر من وجه، المقاومة الدينية لها أكثر من وجه، السلطة لها أكثر من وجه، موقف مصر من الأحداث له أكثر من وجه. عندما نقول الحقيقة في مثل هذه الظروف، قد نخدم من لا نحبّ أن يستفيدوا من أقوالنا، لهذا أجّلت نشر القصيدة حتى يحين وقتها».
يستأنس الأبنودي باتصالات الأصدقاء الهاتفيّة، وزياراتهم أحياناً وبـ«صور من الزمن الجميل مع نجيب محفوظ، والطيب صالح، ومحمود درويش، ويوسف إدريس...». يتوقف: «كلهم رحلوا... هذه مرحلة تصفّي أعمدة إنارتها». يضع الآن اللمسات الأخيرة على ديوانه «كتاب المراثي» حيث يتحدّث عن الشخصيات المذكورة وبعض الشخصيات الأخرى غير المعروفة، أمثال «عبد العاطي»، أحد أبطال حرب تشرين (أكتوبر) الذي اشتهر بأنّه «صائد الدبابات». «هؤلاء الذين يحقّقون الانفصال عن الزمن، بكل ما يحمله على كاهله، لا يستحقون الرثاء. إنني أحاول حمايتهم من الذاكرة المصرية المعروفة بقدرتها على النسيان».
في بداية الستينيات حمل القطار الآتي من الصعيد ثلاث مواهب استثنائية: أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، والأبنودي. كان الثلاثة سُمر الوجوه، ناحلين، مزاجهم ناري، وفي أعماقهم ضعف عميق تجاه الفقراء. كانت لديهم قناعة بضرورة «غزو المدينة ــــ القاهرة»، التي كانت أشبة بـ«الندّاهة»، تدعو كل صاحب كلمة وقت الثورة ليشارك في معاركها. اقتسم الثلاثة فنون الإبداع بينهم: لأمل شعر الفصحى، وليحيى القصة والرواية، وللأبنودي شعر العامية. كان الأخير يعرف أن لديه كنزاً لا يملكه الآخرون: قرية أبنود في جنوب مصر، بعاداتها وتقاليدها وناسها، وأمّه فاطمة قنديل التي كانت سجلاً لكل أشعار القرية وطقوسها، والجدّة «ست أبوها». كانتا ــ الأم والجدة ــ «فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملانه من أغانٍ وما تحرسانه من طقوس هي خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية. أعتبر نفسي محظوظاً لأنني عشت مع هاتين المرأتين». أمّا الأب الذي كان شاعراً، فلم يتحمّل في ذلك الوقت ما يكتبه ابنه فمزّق ديوانه الأول «حبة كلام». لكنّ موهبة الابن كانت أكبر من الاستيعاب. أرسل مجموعة من قصائده بالبريد إلى صلاح جاهين، فلم يكتفِ الأخير بتخصيص عموده في «الأهرام» للشاب الجنوبي، بل أرسل قصيدتين له إلى الإذاعة ليبدأ تلحينهما («بالسلامة يا حبيبي» لنجاح سلام، و«تحت الشجر يا وهيبة» لمحمد رشدي).
في القاهرة التحق بأحد التنظيمات الشيوعية، فألقي القبض عليه ( 1966). أثناء اعتقاله أخذت المباحث مخطوط ديوانه «جوابات حراجي القط» المخصص لزوجته فاطنة عبد الغفار، وأوراقاً أخرى. «اعتبرت كأني لم أكتبه، وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح. وذات ضحى يوم شتائي، هتف بي حراجى لأكتبه، فاندلعت الرسائل متتابعة بِكَراً، كأنني لم أكتبها من قبل. أنجزته خلال أسبوع، ودفعت به إلى المطبعة من دون مراجعة، كأنّه تحدٍّ لمن اغتصبوا حراجي الأول».
في السجن اكتشف أنّ «الشيوعية ليست طريقاً لتحقيق الذات أو تقديم خير إلى الفقراء»، وجاءت النكسة ليرى كلّ الأحلام تنهار. كتب وقتها أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ: «تصور هو الوحيد الذي لا تجمعني به صورة رغم علاقتنا القوية». خرج إلى الجبهة يكتب ديوانه «وجوه على الشطّ». وفي تلك المرحلة وفر له إعجاب الرئيس عبد الناصر بأعماله حماية من بطش «زوّار الفجر». بعد انقلاب السادات بدأ التضييق الأمني على الأبنودي. رفض «أمن الدولة» سفره إلى تونس ليستكمل مشروعه في جمع الهلالية. اتّصل به أحد الضباط يفاوضه على السفر مقابل «كتابة تقارير عن زملائه»، فرفض. أكثر ذكرى تزعجه من تلك الفترة «شائعات الرفاق الثوريين» حوله. استطاع الأبنودي الخروج من مصر بعدما يئس الأمن منه. اختار الشاعر لندن منفىً اختيارياً لثلاث سنوات، أنهاها عبد الحليم مستخدماً «سلطته» في السماح له بالدخول إلى مصر. اعتقد السادات أن الأبنودي سيكون صوته، فأعلن رغبته في تعيينه «وزيراً للثقافة الشعبية»، لكنّ اتفاقية «كامب دايفيد» ألهمت الشاعر قصيدته الشهيرة «المشروع والممنوع»، وهي أقسى نقد وجّه إلى نظام السادات. بسبب هذا الديوان جرى التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانون سمّي «حماية القيم من العيب».
يستجمع الأبنودي طاقته قبل أن يفاجئني بلهجتة الصعيدية الحادة: «شوف، في حياتي أخطاء بالغة القسوة، ندمت عليها. لكن صدّقني في الشعر لم أندم على شيء. الشعر مقدس، لا يأتي بقرار، هو هبة من الله». يتذكر: «عندما كتبت قصيدتي الطويلة «الاستعمار العربي»، ضدّ غزو العراق للكويت، اتهموني بالنفعية والانتهازية. للأسف، كل ما قلته في القصيدة تحقق اليوم».
هل هي مرارة يشعر بها الشاعر؟ «لا. لكنّ شعري لم يُقرأ حتى الآن. جرى التعامل معي ـــ مثل محمود درويش ـــ باعتباري نجماً. كان التركيز طيلة الوقت على مواقفنا، تحركاتنا، أكلنا، وشربنا». أنت فقط واحد من بتوع الأدان؟ يضحك: «نعم لا أقف في طابور، لي رؤيتي الشخصية، لست تابعاً لأحد، لا للحكومة ولا للمثقفين بأنواعهم المختلفة، أتعاطف مع الحقيقة فقط، والحقيقة هي ما أراه
وأصدّقه».


5 تواريخ

1938
الولادة في أبنود جنوب مصر

1962
هاجر إلى القاهرة بصحبة صديقيه الراحلين الشاعر أمل دنقل والقاص يحيى الطاهر عبد الله. وبعدها بعامين أصدر ديوانه الأول «الأرض والعيال»

1966
سجن لمدّة عام وهي التجربة التي تركت أثرها عليه طويلاً

1971
في عهد السادات اختار المنفى، وعاش في لندن ثلاث سنوات، زار خلالها تونس مستكملاً جمع السيرة الهلالية. ثم عاد إلى مصر بعد تدخّل عبد الحليم حافظ

2009
تعرض قناة «الحياة» سيرته الذاتية في أربعين حلقة تحت عنوان «الجذور»، وسيصدر له «ديوان المراثي»