وائل عبد الفتاحالأجندات الخفية ليست ملك الدول الكبرى وحدها. هذه لحظة الترتيبات. توترات قبل استقرار مجهول الهوية، كما حدث في سنوات الانتقال من إمبراطوريات الشمس والنور (بريطانيا وفرنسا) إلى إمبراطورية أرض الحريات والأحلام (أميركا). انتقال ملتبس بأحلام وأمنيات وتحالفات وحروب سرية، وبالطبع أجندات خفية. إلى أين ينتقل العالم؟ وما هي الأحلام التي ستضعها دول العالم العربي على السفن الراحلة إلى عالم جديد (إذا كانت المعطيات صحيحة)؟ هناك على الأقل حركة إعادة مسار في إطار أقرب إلى حرب باردة من دون مواجهات بين الأطراف التي نمت خلال الحقبة الأخيرة. الأنظمة بثقلها التاريخي والمادي في مواجهة تنظيمات ذات طبيعة دينية (إسلامية) انتزعت في ربع القرن الأخير بالتدرج شرعية يمكن وصفها بأنها «سلطة بديلة» أو «محتملة»، لكن يبدو أن هناك طريقة ترى في التنظيمات «الإسلامية» سلطة «مكملة»، وهو نوع من شراكة «اضطرارية» بين الأنظمة والتنظيمات. وسيكون فك الشراكة هو عنوان المعركة
القادمة.
في لبنان الضرب بقوة الآن في «نقاء» حزب الله وإخلاصه لفكرة «التحرير». الضربة الأولى من القاهرة، وما زالت لها آثار، إن لم تكن سياسية، فعلى مستوى شعبية جارفة خدشتها الاتهامات بتكوين خلية «إرهابية» تعمل في مصر. الضربة الثانية في الاتجاه نفسه: الحزب متورط في اغتيال الحريري. كلاهما باتجاه واحد: للحزب أيادٍ سوداء خفية.
الضربتان في إطار أجندات خفية لإعادة ترتيب القوى السياسية بالأساليب الباردة البعيدة عن الواجهة العسكرية، وفك الشراكة بين «النظام الشرعي» في لبنان، الحائز موافقات دولية (الطائف ثم الدوحة) و«حزب الله» بجماهيريته التي غطت على الخلافات المذهبية والمرجعيات السياسية.
الضربات تريد تفريغ الشرعية وضربها في مقتل. كما فعل مثلاً ترويج القصص عن خيانة الملك فاروق للجيش المصري في حرب 1948 وكان العنوان الكبير هو «الأسلحة الفاسدة» التي شاع وقتها أنها مستوردة بأمر من الملك، وهي أهم أسباب الهزيمة أو النكبة. بعد سنوات أعاد المؤرخون قراءة الأحداث وأثبتوا أن الأسلحة الفاسدة خرافة تفتقر إلى صدقيات كثيرة، لكن بعدما أدت دورها في نزع الشرعية بالتدرج من الملك. كان هناك جزء من حقيقة، لكن زمن الأجندات الخفية صعد، ودفع الحركة المحمومة للتغيير باتجاه الثورة على الملك.
كان الموديل الجمهوري حلم المغرمين بفرنسا (النموذج الأساسي) وأتاتورك (الحالة القريبة)، وهو ما أضعف الملك ودفع بعناصر القضاء على شرعيته إلى عناوين الأجندات الخفية.
وهذا لا يحدث الآن فقط مع حزب الله، لكن أيضاً مع بقية تنظيمات الموجة الإسلامية على اختلاف مساراتها وتباينها التاريخي مع مسار حزب الله، من «الجمهورية الإسلامية» إلى «الحزب القائد للتحرير»، مروراً بتطورات فكرية وسياسية حررته بعض الشيء من «الموديل المغلق» للحزب الديني إلى موديل منفتح على معطيات الدولة الوطنية اللبنانية.
انفتاح شراكة يراد لها أن تكون المعبر إلى لبنان جديد... حسب الأجندة الخفية التي تجرب في ضرب طرف الشراكة الأكثر حضوراً وصدقية لتتحكم في «الموديل» الجديد. وهي ضربات تجريبية ستأتي نتائجها حسب قدرة حزب الله ومرونته في إدارة حرب الأجندات الخفية. وهي قدرات ومرونة قد تغيّر في تكتيكات الحزب وإدارته لموقعه في لبنان والعالم العربي. ولا بد من الإشارة إلى أن الضربات أثّرت على رصيده بما أعطى قبولاً ضمنياً عند المصريين الذين كانوا مفتونين ببطولات الحزب، للشك والمراجعة، إن لم يكن الانقلاب على اليقين العاشق.
هذا يجري أيضاً مع الإخوان في مصر، حيث الصمت في مواجهة ضربات أمنية عنيفة تحصد الجيل الفعال الذي نشأ في مرحلة «الزواج العرفي» بين النظام والجماعة. النظام يضرب الجماعة الآن بما وقعت فيه من أخطاء أثناء «الشراكة»، ويريد أن يدفع الشريك ضريبة عدم فطنته.
الأنظمة تريد أن يأتي التغيير على حساب البديل الذي كان محتملاً. وتعتمد على «براغماتية» شعبية في غياب خطاب عقلاني مختلف... لم تعد تحتمل التجريب الكامل... تريد موديلاً مطوراً... التطوير سيأتي غالباً لمصلحة تولي الأنظمة الحالية مع تحسينات «ليبرالية» في غياب الليبراليين.
هكذا صعدت الليبرالية في الكويت من دون خطاب ليبرالي. وهذا ما يراد في مصر. لكن الوضع معقد أكثر في لبنان حيث الدولة لم تقم بعد، وحزب الله ليس شريكاً سهلاً يمكن التخلص منه بسهولة إسلاميي الكويت أو إخوان مصر.
الأسئلة قائمة: هل هذه إشارات على انحسار شعبية التنظيمات الإسلامية؟ من سيستطيع عبور لحظة الأجندات الخفية؟ كيف سيكون التغيير؟ وماذا سيقول أوباما عن العالم الإسلامي في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة بعد أيام؟ هل يقدم أميركا جديدة؟ أم يدعم عالماً إسلامياً جديداً؟