إيلي شلهوبأعمى من لا يرى تعاظم القوة الذي حققته إيران خلال السنوات الأربع الماضية. ظالمٌ من ينكر إسهام محمود أحمدي نجاد فيه. ومخطئ من يقصر الفضل عليه، باعتباره النقيض الصلب والإيديولوجي لمحمد خاتمي المرن والبراغماتي. لا يزال الجميع يتذكرون كيف خرج ابن الحداد هذا من اللامكان ليحصد الرئاسة عام 2005. وقتها، لم يكن أحد قد سمع باسمه خارج إيران. كانت الصدمة ـــــ المفاجأة في تغلّبه على ساسة مخضرمين، في مقدمتهم أكبر هاشمي رفسنجاني ومهدي كروبي، وآخرين كان نجمهم قد بدأ يسطع من أمثال علي لاريجاني ومحمد رضا قاليباف.
«ظهور» جاء في ظروف إقليمية ودولية لم تكن إيران تحسد عليها: مجنون يتحكم بمقاليد السلطة في واشنطن. سبق أن غزا أفغانستان والعراق ونشر جنوده على الحدود الغربية والشرقية لإيران، التي أصبحت عضواً أصيلاً في «محور الشر». السياسة الرسمية للبيت الأبيض لا تزال إسقاط نظام الملالي «غير العقلاني» ووقف البرنامج النووي. انقسام مذهبي بدأ يعمّ العالم العربي، كانت شرارته قد اندلعت في بلاد الرافدين، وفاقمته التطورات اللبنانية في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. سوريا، الحليف الأول لإيران في المنطقة، تخضع لعزلة دولية وتسحب قواتها العسكرية من لبنان...
لم يمض وقت طويل حتى تبين أن الحاكم الجديد لطهران أكثر «جنوناً» وأدلجة من ذاك المتربع على عرش واشنطن؛ وضع حداً للسياسة الانفتاحية التي أرساها سلفه حيال الغرب تحت عنوان «حوار الحضارات»، واستبدلها بسياسة حافة الهاوية. كانت حجته بسيطة: خاتمي مد يديه لـ«الاستكبار العالمي»، حتى إنه علّق العمل على تخصيب اليورانيوم عامين، في محاولة للتوصل إلى تسوية ترضي الجميع، ومع ذلك تزايدت المطالب الغربية من إيران وما تراجعت واشنطن عن طموحها في إقامة شرق أوسط جديد لا مكان لطهران فيه.
وهكذا، اعتمد نجاد دبلوماسية هجومية أدارت الأذن الصماء للأميركيين والأوروبيين والروس والصينيين على حد سواء، وكثّف العمل على البرنامج النووي إلى أن بلغ عدد أجهزة الطرد المركزي التي تشغلها إيران أكثر من 7131 جهازاً، وأقام مصنعاً لإنتاج الوقود النووي. كذلك، كثف العمل على تطوير الترسانة العسكرية الإيرانية (أو على الأقل إعلان «الإنجازات» في هذا المجال لأهداف ردعية لا تخفى على أحد)، وفي مقدمتها الأنظمة الصاروخية، التي توجت أخيراً بتجربة لإطلاق صاروخ فضائي يعمل على الوقود الصلب.
أما في الخارج، فقد أغدق المساعدات المالية والعسكرية على كل حلفاء إيران في المنطقة، سواء في أفغانستان والعراق، أو في لبنان وفلسطين، فيما كان يبذل جهوداً جبارة حيال السعودية وباقي دول الخليج في محاولة لطمأنتها والتقرب منها عبر عرض المساعدات عليها، والعمل على تجنب الفتنة السنية ـــــ الشيعية التي باتت تلوح في الأفق.
لم يترك أياً من المحرمات الدولية إلا خرقه، في مقدمتها قضية المحرقة اليهودية التي شكك في حصولها، وإسرائيل التي تعهد غير مرة بإزالتها عن الخريطة. وفي هذا رأيان: الأول يقول بحماقة هذا الرئيس الذي أثار العالم كله على إيران وأعطى الدولة العبرية الحجة لتؤدي دور الضحية في مواجهة ديكتاتور يسعى إلى القضاء عليها، فيما يقول الثاني إن هذا الرجل يعتمد سياسة ممنهجة هدفها «كسر الأصنام» التي اعتقد بها العالم لعقود، وبينها «الهولوكوست» ومقولة أن إسرائيل لا تقهر.
مهما يكن من أمر، فها هو نجاد، الذي ضاق كُثر ذرعاً بسياسته الاقتصادية الاعتباطية وتزمته الزائد على حده، ينهي ولايته وقد أقرّ الغرب كله، ولو ضمناً، بأن بلاده قد تجاوزت ما يعرف بـ«العتبة التكنولوجية»، وأنه لا مناص من الاعتراف بها دولة نووية مع ضمانات عدم إنتاج أسلحة دمار شامل. ثبتت صعوبة توجيه أي ضربة عسكرية إليها، وسقطت سياسة إسقاط نظامها. الأذرع العسكرية الإيرانية في لبنان وغزة تزداد صلابة، وسوريا قد فكّت عزلتها. وواشنطن تسعى إلى محاورة طهران لضمان تعاونها في العراق وأفغانستان، بل لمحاولة التوصل إلى ترتيبات إقليمية تشمل المنطقة كلها...
ومع ذلك لا بد من تأكيد أن تعاظم قوة إيران ودورها في عهد نجاد يعود في الجزء الأكبر منه إلى خطايا جورج بوش، وفي مقدمتها إسقاط نظامي طالبان وصدام حسين، وإشغال القوات المسلحة الأميركية في حربين ضروسين أفقدتاها القدرة على خوض غمار نزاع عسكري ثالث، فضلاً عن سقوط الرهان على الجيش الإسرائيلي الذي انهارت أسطورته في الجنوب اللبناني.
لا شك في أن رئاسة نجاد كان لها ما يبررها في عهد بوش: مجنون يحاكي مجنوناً. يتحدثان اللغة نفسها ويفكران بالطريقة ذاتها ويعتمدان المنهج نفسه. لكنها بلا ريب أساءت إلى صورة طهران في العالم، بالقدر الذي أساءت فيه رئاسة بوش إلى صورة واشنطن.
اليوم غيرت أميركا في شكلها. صحيح أنها لا تزال إمبراطورية استعمارية تسعى إلى ابتلاع الكوكب ومقدراته، وفي مقدمتها ثروات منطقتنا. لكنها ارتدت قفازات حريرية.
آن لطهران أن تحمل درعاً مخملية. مير حسين موسوي قد يكون الخيار الأفضل للمرحلة المقبلة.