هو ليس مشهوراً. ما من إعلانات تجارية تحمل صورته مستقطبة عيون المارة. لكن الكثير من المواطنين احتاجوا إلى خدمات محمد مسلماني. تساعد خبرة 40 عاماً في رشّ المبيدات الرجل على الوقوف صلباً في وجه الظروف، مصرّاً على ممارسة مهنته التي تقهقرت كثيراً
محمد محسن
ربما كان بغض محمد مسلماني للصرصار، برغم أنّه باب رزقه، هو خلف نجاحه في أن يكون وكيل الناس في القضاء على الحشرة التي يقال إنها الوحيدة التي تعيش بعد القنبلة الذرية. كيف لا، وهو الذي يدين له زبائنه بقتل مليارات الصراصير المزعجة، خلال 4 عقود من الزمن مستعيناً بأدوات الرش اليدوية.
منذ بداية هذه العقود، يشحذ مسلماني همّته للعمل مع بداية كلّ موسم انتشار للحشرات، في نيسان وأيار من كل عام، وصولاً إلى أواخر الخريف. يجهّز عدّة «الرش». يحمل المرشّة في يمناه، والأدوية في يسراه، ويطرق الأبواب، عارضاً قدراته في مواجهة الحشرات والزواحف، وخصوصاً الصراصير. يؤكد لزبائنه أنّ أجرته لا تتجاوز ثمن المبيد، وأتعابه التي تقاس بحجم المنزل الذي «يرشّه».
أبو علي، واحد من «رشاشين كثر» لبّوا حاجةً ماسّة إلى درء اعتداءات الحشرات. لكن، بعد انتشار سوق المبيدات الحشرية تخلّى الكثيرون عن خدمات مسلماني وزملائه، ما عدا بعض الزبائن القدامى. هؤلاء لا يزالون مقتنعين بمبيدات أبي علي الألمانية، التي يدوم فتكها بالصراصير سنة أو أكثر.
يفتح الحديث مع مسلماني عن زبائن الماضي، باباً أمام ذكرياته. تثير تجربته الفضول، فالرجل الستيني صاحب خبرة، عمرها 39 عاماً، انطلقت في عام 1970 من بوابة وزارة الصحة العامة، التي كانت توكل إليه وإلى وزملائه رش المشاتل والأراضي الزراعيّة في القرى.
هكذا، كان أبو علي يلتزم رشّ المبيدات في 3 أو 4 قرى جنوبية شهرياً، مقابل راتب «300 ليرة حلوين»، يتحسّر على ضياع قيمتها اليوم. يستطرد في حديثه عن مهنته التي كانت «بتربّي عيلة طويلة عريضة». والآن؟ يجيب أبو علي: «تسكيت جوع وبس». فالرجل الذي لم يكن ينتهي من رشّ منزل زبونٍ، حتى ينتقل إلى منزل آخر، أصبح الآن يأخذ دفّة السؤال ويقول بأسى: «شو يعني تشتغل يومين أو ثلاثة بالأسبوع؟». الحالة إذاً تعبانة. ترجمت تعبها على مهنة أبي علي، الذي بدأ يعمل لحسابه الشخصي في عام 1976 عندما «فرطت الدولة»، كما يقول ابن بلدة الشعيثية الجنوبية.
هنا نقطة فاصلة في حياته المهنية. في صيدا، أتقن مسلماني التدقيق في نوعيّة المبيدات، وبين شوارع المدينة ومحالها المتخصصة بالشؤون الزراعية، تعلّم الرجل تقنين كميّات المبيد.
ثم مرت سنوات قليلة قبل أنّ تصبح لأبي علي خلطة مبيداته، التي «بيّضت وجهي أمام الكثير من الزبائن، الذين كانوا يصرون على اختبار صلاحية المبيد قبل الدفع» يقول مسلماني. ويؤكد أنّ قبوله بهذا التحدي، كان نابعاً من ثقته بخلطته السرية.
بالصدفة، نسج أبو علي شبكة زبائنه. شبكة عابرة للطبقات الاقتصادية، على حد تعبيره، حيث لا فرق في درجة الاشمئزاز من الصرصار بين غني وفقير. يحدّثك عن زبائن حي السلم والأشرفية الفقراء، وعن أثرياء وفنّانين أغدقوا عليه مئات الليرات دفعةً واحدة. لا تغيب عن ذاكرة الرجل 500 ليرة أعطته إياها الفنانة سامية كنعان، مقابل «رشّتين» لتنظيف منزلها. لكنّ للمئة ليرة المضافة على إيجاره، طعماً آخر، وخصوصاً أنّها إكرامية وجدتها كنعان صغيرة، قياساً إلى حجم الحنش الذي قتله أبو علي في قن الدجاج في منزلها.
هكذا، من قبول التحدّي مع الزبائن وصولاً إلى قتل الحنش، فتحت مغامرات أبي علي أبواب العمل مع زبائن كثر، دلّوه بدورهم على أقربائهم.
يضع مسلماني خبرته بتصرف الزبون طوعياً. هو مستاء من وضع مهنته حالياً. يقارن أبو علي بين الأدوية التي يستعملها «الرشّاشون» من جهة، والأدوية المنتشرة في الدكاكين لقتل الصراصير والبرغش، من جهة ثانية.
ينطلق من تجربته ليؤكد أنّ مفعول المبيد الذي يستعمله، طويل الأمد، ولا يقل توقيت فعاليته عن عام كامل، فيما لا تتجاوز مدة فعالية المبيدات الرخيصة، أكثر من 5 دقائق، وهي أصلاً لا تقضي كلياً على منبع الحشرات، كما يقول.
مهنتنا كانت تربي عيلة أما الآن فمجرد تسكيت جوع

نال مئة ليرة إضافية بعدما قتل حنشاً كبيراً
تلمس في كلام الرجل دعوةً من صاحب خبرة، لترشيد الإنفاق في سبل التخلص من الحشرات الزاحفة، وخصوصاً عندما يقارن بين مجموع أسعار الأدوية الرخيصة خلال موسم انتشار الحشرات، وأجرته لقاء تنظيف طويل الأمد، ليصل إلى نتيجة مفادها أن سعر الأدوية المستحدثة أعلى بأضعاف من ثمن «الرشّة الواحدة». لكنّه يعزو تراجع التهافت على مرشّته، إلى ضيق الأحوال الاقتصادية «التي صارت مقرفة أكثر من الصراصير»، لأن غالبية الناس يعجزون عن دفع أجرة «رش» البيوت ضد الحشرات دفعةً واحدة، وخصوصاً إذا كان ثمنها 40 ألف ليرة. كما يستغرب مسلماني، الفكرة المنتشرة بين الناس، عن أفضلية الشركات التي تقوم بعروض لرش المبيدات.
يتساءل هنا عن الفارق بين أمثاله وبين الشركات، في ظل وجود المبيد نفسه، والخبرة ذاتها لدى الطرفين أيضاً، ليصل إلى نتيجة مفادها أن سطوة الإعلان، تتفوق على الخبرة في هذا المجال.
ومهما كثرت البيوت التي يدخلها أبو علي أو قلّت، فمرور الزمن ودولاب الحياة لم يغيّرا ثوابته في التعامل مع الزبائن. هكذا، يرى الرجل أنّ قدسية حرمة البيوت التي يدخلها يجب أن تبقى مصونة، إضافةً إلى الصدق في المواعيد مع الزبائن، والابتعاد دائماً عن الغش إن في المبيدات أو في طريقة «الرش».
خبرة أبي علي صقلتها 40 عاماً من احترام المبادئ. يحمد ربّه أنّ أولاده كبروا وباتوا يتحملون مسؤوليات مصاريفهم، بعدما تراجعوا عن امتهان هذه المصلحة، نظراً لعدم ثبات مردودها. وحده ابن أخيه، مصرّ على العمل «رشّاشاً». لكن، حتى إشعار آخر.
يبدو أبو علي رجلاً قنوعاً، مثله مثل العمال الفقراء. لا يزعجه رفض أصحاب البيوت دخوله منازلهم لرش المبيدات «فالرزق دولاب يوم لي ويوم عليّ».
أكثر ما يزعجه، زجّه وهو «الباحث عن لقمةٍ شريفة»، مع بعض منتحلي الصفة من مندوبي المبيعات، علماً بأنّ هناك كثراً يسعون إلى تقمّص عمله، كما يقول.
لا يأبه مسلماني لهذه المحاولات، وهو العارف بخلطة المبيدات السرية التي «يطبخها» قبل بداية الرش. يمتنع عن ذكر أي تفصيل عن خلطته، إذ يسعده أن يحمل سر التعامل مع الحشرات، ومهما دار دولاب الزمن في عكس سيره يؤكد أن «رصيد المرء أخلاقه، وإلا أصبح مثل الصرصار، ويستحق مبيداً لأخلاقه السيئة».


مش دايماً بتصيب

صرصاران تمكنا من الهرب من رذاذ مبيد مسلماني، ونقلا المعركة إلى عقر... ملابسه حيث فوجئ بهما يرتعان بين بنطاله وساقيه. يضحك مسلماني بصوت مرتفع، حين يذكر بعض الحوادث المشابهة التي عايشها، مشيراً إلى أنّه لا ينسى الجرذ الذي خرج من تحت فرن الغاز، وسبب إغماءً لصاحبة المنزل الذي كان يعقّمه أبو علي، قبل أن ينال من الجرذ.