منهال الأمينكانوا «صغاراً» وكنت «قائدهم». صاروا «كباراً» وبتّ وراءهم. أناجي أرواحهم فلا تجيب. لعلّها غاضبة مني. لكن ما عهدي بهم يغضبون. وخصوصاً محمد(*)، ابن الثمانية عشر ربيعاً. أعرفه طفلاً يحبو. سرعان ما اشتد عود الطفل، لكنّه سيبقى في نظري طفلاً. ظلّ يعاملني ككبير وهو طفل. كقائد وهو عنصر ضعيف يحتاج إلى مساعدتي.
كنت ألاحقهم كي يكملوا دراستهم. عبث. الحياة قاسية يا قائد. إلى العمل سر. إلى التعب إلى الشقاء. وفي مكان ما، لا أكاد أراه، يتهيأ ليوم يعِد نفسه به. لا يرفض محمد طلباً. لا يتأفف أو يتذمر. كأنّه خلق وطُبِع على جبينه عبارة «مشحّر ومعتّر وآدمي». مسكين هو. هكذا يوحي مظهره وملبسه ومسلكه. لكنّه نشيط مثابر. ينفض عنه غبار الكسل مع كلّ صباح، إلى العمل، مهما كان نوعه. كان همه المستقبل والزواج والاستقرار وتأسيس بيت الأحلام. تراود الأحلام أبناء الفقراء كما تراود أبناء «الذوات». وفي حين أنّ أبناء الذوات «يبطَرون» ويتنعمون بكلّ مظاهر الرفاهية والرخاء، فإنّهم «يُكَوْبِسون» بالأحلام السعيدة لمحمد وأمثاله. أحلامهم بالشهادة لا تُفسَّر. هم لا يمقتون الحياة، لكنّهم يأنفون الظلم. والظلم ظلمان. وظلم ذوي القربى أشدّ. أن تحلم بالشهادة أو تسعى إليها، فهذا يتطلب أن تكون من قماشة خاصة، وذا مواصفات عالية، لا تتوافر عادة لأيٍّ كان من البشر.
ذات نهار تموزي من عام 2006، وتحديداً في بنت جبيل، كان مطلوباً من محمد ورفاقه أن يكونوا جاهزين، متى تقدم العدو عرقلوا تقدمه. رشاش وجعبة، بضعة مماشط، على بضع قنابل كان كلّ ما يحملونه معهم. بعد الجولة الأولى، عادوا يضحكون ويصهلون. كلّ يروي بشغف كيف سارت «اللعبة». كانت المعركة بتحليل القادة الميدانيين تحتاج إلى روحية هؤلاء الفتية، لأنّ العدو همجي ولا يُقاتل. متى تصدى له خصم عنيد متحمس، كسب نصف المعركة. وهكذا فعل محمد ورفاقه. ذُهل القائد. لأول مرة هو لا يفهم ما يقولونه، أو ماذا يفعلون. إنّهم لا يأبهون لشيء، همهم ألا يجوس العدو خلال الديار. جولة ثانية، أصيب محمد، لكنّه تابع. زحف إلى مكان أمين. وظل «يلاعب» جنود العدو. كلما أطل منهم واحد عاجله برصاصة. بضع رصاصات وبضع قنابل. وطائرة يسميها الجنوبيون «محاية»، هذه الطائرة لا تبقي ولا تذر. هناك عند مدخل المسجد، قناص تربّص بمحمد فأرداه. طفل خطير سقط. تلوى قليلاً في مكانه. لم تمهله «المحاية»، فأهالت المسجد عليه وعلى من فيه. أصلاً يا عزيزي، لم يكن أمامك أمل بالنجاة، كذاك الذي كان يمازح رفاقه وهو يحتضر حتى أسلم الروح فجراً.
لن تصل الإسعاف إليك يا محمد. ولن تهبط عليك المروحيات بالدواء والطعام. أرى يا صغيري جازماً أنّك نجوت، وأعيذك أن تكون قد سمعت بمرجعيون، أو بطارق متري خطيباً في مجلس الأمن، أو بـ«لبنان أولاً».
صدقني لقد نجوت. عنجد نيّالك!

*محمد منيف عطوي من بلدة شقرا. استُشهد في مواجهات بنت جبيل خلال عدوان تموز 2006