حسان الزين


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

مع كل تحوُّل يقوم به رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يستعيد عنواناً من تاريخه السياسي. في المرّة الماضية، عندما انتقل إلى ضفّة خصوم سوريا وحلفائها في لبنان والمنطقة، استحضر والدَه، كمال جنبلاط، وأعلن انتفاضته على «كذبه» الذي استمرّ ثلاثين عاماً. وها هو اليوم، وهو يعود إلى ضفة حلفاء سوريا وأصدقائها، يستحضر الحزب التقدمي الاشتراكي. في المرّة الماضية كان لا بد له أن يتّكئ إلى والده، المغتال، ليشهر سيف الثأر، ليصفّ المذهب خلفه. والآن يفتح الجارور ليقرأ في كتاب الحزب كي يتسلّح في معركته الجديدة الحالية ضد النظام والتركيبة الطائفية، وضد حلفاء الأمس أيام الثأر، الذين هم أنفسهم خصوم الماضي أيام الحزب.
يحتاج وليد جنبلاط، الأكثر حركة وتنقّلاً بين الزعماء والقوى السياسية في لبنان، دائماً، إلى ما يتّكئ عليه لتأمين التحوّل وسلامته ولتجديد الخطاب، لا لإقناع الأتباع والمحازبين وحسب، بل «لإقناع» الآخرين. وهذه المهمّة وتلك يعينه عليهما النظامُ الأهلي اللبناني بصراعاته التاريخية والسياسية. وإذ يجد جنبلاط، هذا الرجل العصري، دائماً، غايته في ماضيه وماضي مؤسسته العائلية الإقطاعية، تراه يلعب اللعبة العربية التقليدية ذاتها في الاستعداد للحرب أو السلم. فإضافةً إلى استعداده السياسي والثقافي والنفسي، وبمعزل عن حساباته المحلية والإقليمية والدولية، يتحرك جنبلاط كأي زعيم قبيلة «أقلية» وسط محيط متوتر خطر، انطلاقاً من تلك الثقافة العربية التي تعدّ أسماء الذكور جزءاً من السلاح. إذ إن تلك الأسماء، بحسب تلك الثقافة الذكورية، تتوجه إلى الآخرين لتخويفهم والتدليل على انتماءات أصحابها ومكانة كلٍّ منهم، بينما أسماء الإناث تُختار ناعمة لتخاطب الذات الذكورية أيضاً.
صحيح أن جنبلاط، اللاعب في المسرح الذكوري (السياسة) يقدّم اليوم الحزبَ، بما هو تعبير حداثي أشهره المؤسس كمال جنبلاط أواسط القرن الماضي في وجه الطاقم السياسي التقليدي اللبناني، إلا أنه (وليد) يعرف أن الحزب بات اسماً للمذهب. ويعرف وليد جنبلاط أيضاً أن حزبه اليوم ليس ذاك الحزب لحظة تأسيسه (1952) وقبل الحرب أيام النضال النقابي والعمل اليساري.
يتذكر جنبلاط الآن الحزب التقدمي الاشتراكي، أو بالأحرى، يتذكر تاريخه النضالي، بعدما «تذكّر» الزعماء الآخرون «أحزابهم» التي ورثوها عن «آبائهم»، الذين كثيراً ما سخر كمال جنبلاط من تخلفهم السياسي والثقافي، وما كان ليقبل انتساب معظمهم إلى حزبه. لكن الفارق الأبرز بينه وبين أولئك هو أنه يتذكر الحزب ليجد متنفّساً له خارج مذهبه، ليوسّع جسده الأقلّي، بينما يتذكّر الآخرون أحزابهم ليحتكروا مذاهبهم، أو أكبر قدر من مذاهبهم، وليحصّنوا قلاعهم داخل مذاهبهم في وجه القلاع الأخرى والمذاهب الأخرى. وهذا ما يجعل مهمّاتهم أسهل من مهمة جنبلاط، الذي يجد الآن حزباً ـــــ قلعة مذهبية أشبه بأحزاب الزعماء الآخرين.
لقد «أنهى» وليد جنبلاط نفسه الحزب التقدمي الاشتراكي (اليساري بحسب تعبيره)، مثلما تخلى عن الأحزاب اليسارية التي حالفت حزب أبيه وربطت مصيرها به، واقترحت معه ذاك المعنى اليساري لسياساتها الوطنية تارةً والاجتماعية تارةً أخرى.
أي حزب يحاول أن يوقظ جنبلاط اليوم، وقد فعل ما فعله مع حزبه ومع الأحزاب الحليفة التي كثيراً ما مثّلت «الجسور الوطنية» لكمال جنبلاط خارج النظام والجبل؟ لقد أنهى جنبلاط ذاك الحزب وقطع تلك الجسور، في زمن تحالفه مع سوريا، التي عاد يرى من خلالها البعد القومي العربي. هذا، واليسار الحزبي عموماً، لا التشكيل الجنبلاطي وحليفته حركة اليسار الديموقراطي وحسب، في وضع أقل ما يُقال فيه إنه مأزوم وخطابه مخشّب. فليس بالذاكرة وبالتذكير السياسي وحسب يحيا اليسار أو يعود إنسانٌ وحزبٌ يساريّين. واليسارية لا تقتصر على مناصرة القضية الفلسطينية ولا من شروطها التحالف مع سوريا. اليسارية، في لبنان، أولاً، اللاطائفية في السلوك والنظر إلى الأمور، ومنها النظام والمجتمع، وفي الشخصية (الحزب). وأي من هذه «المواصفات» غير متوافر حالياً في الحزب الجنبلاطي ورئيسه، الذي يُنقل عنه حنينه اليساري إلى أيام النضال.
ويفرح اليسار الحزبي أن «الرفيق» القديم تذكره، كما يفرح الفلاح بابتسامة يرميها إليه السيد الاقطاعي، الاشتراكي مُحب الفقراء، الذي وللمرة المليون لا يتردد في التعالي حتى على «حزبه»، إذ يظهّره متخلّفاً عنه شخصيّاً وعن اللحظة السياسية التي يحلّلها وينهض لمواجهة أخطارها.