عصام العريان *اتخذ محمود عباس قراره المنفرد بشأن طلب تأجيل التصويت على تقرير غولدستون بإيعاز من سماسرة القضية الفلسطينية وتجارها والحلقة الضيقة من حوله. وغيّب السلوك فتح، ومنظمة التحرير، حتى في شكلها الجديد الموالي له. ثم أتبع ذلك القرار الشاذ، الذي كشف عن تواطئه مع العدو، بالتصريحات الموحية بأن مصر ودولاً أخرى شاركت في التشاور بشأن قرار التأجيل، مما أدى إلى غضب مصري، وتصريح قوي بأن مصر فوجئت ولم يشاورها أحد.
يحاول محمود عباس أن يرمم علاقته مع مصر بعد هذا التصدع الشديد، وهو لم يعتذر عن الموقف المخزي، الذي لن تنساه مصر، حتى بعد إقرار التقرير أخيراً، لأن ما حدث من تأجيل في المرة الأولى كان كاشفاً عن تحالفات عباس وانحيازه للعدو الصهيوني وإهماله مصر والعرب.
ثم تأتي التحركات البهلوانية بالتوقيع المنفرد على الوثيقة المصرية، وإخراج ذلك في حركات مسرحية وكأنه يريد حشر حماس في الزاوية وإظهارها وكأنها هي التي تفسد الجهود المصرية.
لقد كسبت حماس، رغم كل الظروف الصعبة التي تحيط بها، ثقة مصرية في الجدل الدائر حالياً، بسبب تصرفات أبو مازن والزمرة المحيطة به، التي كشفت بوضوح أنه أصبح لا يلقي بالاً لمصر ولا للعرب ولا للأمة المسلمة ولا للرأي العام الدولي ولا للرأي العام الفلسطيني وفصائله كلها، ولا يعبأ حتى بحركة فتح نفسها وتنوع الآراء داخلها، ولا قطعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. إنه يهتم فقط بمكالمة تأتيه من باراك أوباما، تحمل وعيداً في صورة الرجاء، أو يهرع إلى تنفيذ المطلوب منه بعد تهديد نتنياهو أو ليبرمان بكشف الاتفاق بينهما على تدمير غزة وحصار أهلها وذبح نسائها وأطفالها وتجويع رجالها وشيوخها.
إذاً، كشف موقف عباس عن حقيقة تحالفاته السياسية ومشروعه الفلسطيني الذي يقوم على إلغاء المقاومة تماماً، والابتعاد عن العرب وقيودهم السياسية، والسعي للحصول على أدنى المكاسب من العدو الصهيوني مع التخلي عن كل الثوابت الفلسطينية في حق العودة، وسيادة الدولة الموعودة على الأرض والمياه، والتسليم لليهود بما يريدونه في القدس، وذلك تحت وهم أنه إذا لم نحصل الآن على أى شيء فلن نحصل فى المستقبل على أى شيء. فهناك عجز تام وتشاؤم كامل يسيطر على تفكيره وقراره، بينما تحوّل من حوله إلى رجال أعمال يتاجرون فى أي شيء وكل شيء من أجل مصالحهم الشخصية فقط.
الآن، وبعدما انكشف عباس ومشروعه السياسي أمام مصر في لحظة تاريخية فارقة، بينما هي تسعى بكل جهدها من أجل جمع الشمل الفلسطيني وتحقيق المصالحة الوطنية المأمولة، يجب على مصر أن تراجع نفسها وتقدّم رؤية من أجل القضية الفلسطينية لا من أجل مجرد المصالحة، حتى ولو كانت المصالحة مطلوبة لذاتها أولاً، ولإعادة إعمار غزة ثانياً، ولرفع الحرج الذي سببته حرب غزة عن مصر التي حرص العدو وعباس على إظهارها وكأنها مشاركة في العدوان والحصار، أو على الأقل صامتة ومتواطئة.
لقد قدمت مصر الكثير من التضحيات من أجل فلسطين، بل في الحقيقة من أجل مصر نفسها. فالدور المصري والسوري عبر التاريخ هجس بالحفاظ على الأمن القومي العربي في شموله، وهو في ذلك الوقت يترجم كأمن وطني مصري لأن مصر هي دولة قائدة ورائدة في محيطها الإسلامي والعربي، حتى ولو تراجع ذلك إلى حين. فهذا قدرها.
محمود عباس لا يريد من المصالحة إلا التوقيع عليها ثم احتفالية لإنقاذ ماء الوجه
تتعالى الأصوات في الساحة الفلسطينية اليوم من أجل مراجعة شاملة لقضية المصالحة الوطنية، وفي أي إطار تأتي، وما هو التوقيت المناسب لها؟ وبات واضحاً أن محمود عباس وفريقه الموالي له داخل السلطة وفتح، لا يريد من المصالحة إلا التوقيع عليها ثم احتفالية (أو بدون احتفالية) لإنقاذ ماء وجهه، ولن ينفذ من المصالحة إلا إجراء انتخابات جديدة في ظل هذه الأجواء المشحونة، وهي انتخابات قد يستعيد بها جزءاً من شرعيته المتآكلة. ولن يعتمد أية ضمانات جادة لكفالة نزاهة الانتخابات، ويكفيه تزويرها في الضفة الغربية أو إرهاب الناخبين والمرشحين لكي تصبح معه أغلبية برلمانية زائفة، يوقع بها وعن طريقها مع العدو في إطار مشروعه السياسي الخاص، وفى غياب العرب والفلسطينيين، ليضع الجميع أمام أمر واقع جديد كما وضعهم من قبل اتفاق أوسلو بعدما زيّن لعرفات وللمنظمة، في أعقاب حرب الخليج الثانية التي دمرّت العراق وحاصرته، التوقيع على الاتفاق الذي ثبت فشله. وهذه سياسة الهروب إلى الأمام.
اليوم تنادي أصوات فلسطينية من دمشق ورام الله بضرورة إنجاز برنامج سياسي ورؤية سياسية شاملة قبل التقدم إلى المصالحة والاتفاق كي لا تتكرر نتائج اتفاقات القاهرة ومكة نفسها.
مصر، التي ترعى المصالحة والاتفاق، عليها أن تحسم أمرها: هل هي تؤيد المقاومة الفلسطينية المشروعة أم تعتبرها، كما يقول عباس، خارجة على القانون ويدمغها بالصبيانية، وأحياناً يصفها بعض من حوله بالإرهاب. ولولا بقية خجل لصرحوا بذلك علانية.
على مصر أن تقول بملء فيها إن اتفاقاً فلسطينياً ــــ صهيونياً من وراء ظهرها أو من وراء ظهر العرب والمسلمين، ولا يحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، لن توافق عليه ولن تقره وستقف مع الشعب الفلسطيني حتى يسترد كل حقوقه المشروعة.
على مصر أن تكشف أوراقها، وأن تتخلى عن هواجسها الأمنية تجاه المقاومة الفلسطينية، وخاصة حماس والجهاد، وأن ترى كيف تعمل السياسة الأميركية لنزع أي أوراق ضغط لدى العرب والمسلمين في صراعهم مع العدو الصهيوني، في إيران وباكستان وتركيا وسوريا، وفي فلسطين نفسها عبر الجنرال كيث دايتون المقيم في تل أبيب أو المبعوث ميتشل الذي أعلن أخيراً تحفظاته على المصالحة الفلسطينية التي ترعاها مصر، لأن أي حكومة لا تقر بشروط الرباعية ولا تعترف بالعدو الصهيوني لن تتعامل معها
أميركا.
إذاً، هذه المصالحة هي في مهب الريح. إلا إذا كان المطلوب هو حشر حماس في الزاوية، وهذا لن يتحقق لأن حماس رقم صعب في فلسطين كلها، غزة والضفة والشتات، ولها تأييد قوي في أراضي 1948، وفشلت كل المحاولات المستميتة لشطبها من المعادلة، بل ازدادت قوة بثباتها على مبادئها وصمودها فى مواقعها وإدارتها لمعاركها السياسية بذكاء شهد به خصومها.
في اللحظة التي خسر فيها عباس نقاطاً عديدة مع مصر، وانكشف فيها أمام الرأي العام المصري والعربي والدولي، حتى أن أنصار العدو الصهيوني يطالبون قادته بمحاولة التحقيق في الجرائم التي حواها تقرير غولدستون للالتفاف على المحكمة الجنائية الدولية، وكسبت حماس مصداقية أمام الجميع، والتف حولها رأي عام فلسطيني عارم وغاضب ضد عباس وزمرته، فهي اللحظة المناسبة لإجراء مراجعة شاملة للموقف المصري، حتى لا يورطنا عباس والمتاجرون بالقضية، الذين يبيعون دماء الشهداء بثمن بخس، في ورطة تاريخية.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين بمصر