كأنّ الحرمان والإهمال المزمنين اللذين تعاني العاقورة منهما لا يكفيان، لتضاف إليهما، اليوم، مشكلة تلوّث مياهها الجوفية. ففي ظل عدم استكمال مشروع إنشاء محطّة لمعالجة الصرف الصحيّ في الطرف الجنوبيّ من البلدة، رغم المراجعات المتتالية أمام المعنيين، بادر الأهالي إلى حفر جور صحية خاصة قرب منازلهم، في حركة عشوائية قد يؤدي غياب التخطيط عنها إلى تلويث مياه القضاء بأكمله
جوانّا عازار
فيما تنام بلدة العاقورة في قضاء جبيل على بحر من المياه، إذ ينبع الرويس من طرفها، وتجري مياهه تحت الجبل الذي «تسند ظهرها عليه»، تواجه اليوم خطر تلوّث مياهها الجوفيّة. وتؤهّل طبيعة أرض البلدة التي تعرّضت لخسوفات متتالية، كان آخرها عام 1929، جوفها لتخزين كمّيات هائلة من المياه، يتفجّر قسم منها من طريق نهر الرويس، بينما يبقى القسم الآخر منها كامناً في الجوف. ورغم هذا الغنى في الينابيع والموارد المائيّة، إلا أن الجزء الجديد من البلدة، التي تمددت مع مرور الوقت، لا تشمله شبكة مياه الشفة التي يستفيد منها القسم الآخر من البلدة. أمّا المشكلة الأبرز التي تهدّد العاقورة، بحسب أحد أبنائها الذي نقل الهموم الإنمائيّة والحياتيّة لأهل البلدة، رئيس لجنة التثقيف السياسي في التيار الوطنيّ الحرّ، الدكتور بسّام الهاشم، فهي قضيّة الصرف الصحّي. فمشروع إنشاء محطّة لمعالجة الصرف الصحّي في الطرف الجنوبيّ من البلدة لم يستكمل، وتوقف عند مرحلة مدّ القساطل التي أنجزت عام 1995 من دون أن تنشأ حتّى اليوم محطّة التكرير وتوصل المنازل بها. ومن شأن هذه المحطّة، بحسب ما يشرح الهاشم، «أن ترفع الضرر البيئيّ الذي يهددّ المواطنين، بالإضافة إلى تأمينها الاستفادة من المياه المستهلكة في ريّ الأراضي الزراعيّة، واستخدام النفايات الصلبة كأسمدة زراعيّة».
وقد راجع الأهالي مراراً الدوائر المختصة بتنفيذ المشروع الذي تصل كلفته إلى مليون دولار، آخرها كان السنة الماضية حين تمت مراجعة وزارة الطاقة في الحكومة السابقة. حينها، جاء جواب الإدارة المختصّة، كما نقله الهاشم، أنّ «إنشاء الشبكة قد رُبط بإنشاء مجموعة من الشبكات في كلّ المنطقة الجرديّة في جبيل، أي على مساحة تشمل 17 ضيعة، بالإضافة إلى ربط إنشاء الشبكة بالنتائج المترتبّة على تقييم «سدّ جنّة»، بهدف الاستفادة من أخطاء التجربة السابقة وتجنّب الوقوع بها مجدداً».
جواب لم يفضِ إلى نتائج عملية على أرض الواقع، إذ بقي الوضع على حاله. «دقّ الميّ هي ميّ»، كما يصفه الهاشم، الذي ينقل حرص الأهالي على الإسراع في تنفيذ المشروع، لأنّ نتائج الكارثة البيئية والصحية قد بدأت تظهر، وخصوصاً أنّ أهالي البلدة قد لجأوا، في سبيل التخلص من الصرف الصحي في منازلهم، إلى حفر الجور الصحيّة الخاصة قرب منازلهم. من هذه الجور ما يقع على تخوم الطرق العامّة، ومنها ما يفيض أحياناً لتتسرّب المياه الآسنة على الطرق مهدّدة صحة المواطنين والبيئة عموماً، لما تحتوي عليه من ميكروبات. مشكلة يرجّح أن تكون أحد الأسباب وراء ارتفاع منسوب بعض الأمراض التي انتشرت في الفترة الأخيرة. ويبقى السؤال الذي يشغل بال العاقورييّن: هل تكون المياه الآسنة قد تسرّبت إلى جوف الأرض ووصلت إلى طبقة المياه الجوفيّة ملوثة مياه نبع الرويس؟
فالتلوث قد سبق أن طال إحدى عيون القرية، عين العاقورة، حارماً الأهالي من مياهها التي كانوا يشربونها في الماضي، ولم تعد صالحة للشرب بعد تلوثها بمياه الجور الصحيّة الآسنة.
سؤال لم يتوافر جوابه حتى الآن، وخصوصاً أن الجهات المعنيّة بفحص مياه الرويس لم تحرك ساكناً بعد للتأكّد من تلوّثها أو عدمه، علماً بأنّ التلوّث في حال حصوله لن يطال العاقورة وحدها، بل سيشمل المنطقة بأكملها، بما فيها جبيل وكسروان.
«لا بدّ من دقّ ناقوس الخطر»، يقول الهاشم الذي يكمل شارحاً: «باستطاعة الطاقة المائيّة المتوافرة، إذا حوفظ على نظافتها، أن تحلّ مشكلة الحاجة إلى مياه الريّ ومياه الشفة في منطقة جبيل، وبخاصّة في ظلّ التهديد بشحّ المياه الذي يشهده لبنان».
وكان الهاشم قد تقدّم منذ ثلاثة أشهر بدراسة للمشروع إلى وزارة الطاقة، وقد أحيلت إلى الدرس، فيما ينوي تقديمها أيضاً إلى مجلس الإنماء والإعمار، على أمل أن تلقى الآذان الصاغية قبل أن تقع المشكلة الأكبر. فمثلاً، في بلدة حالات الجبيليّة التي تستفيد من مياه محطّة نهر إبراهيم، يشكو الأهالي من تفشي بعض الأمراض. وبالتالي، يقول الهاشم «لا بدّ من التساؤل عما إذا كان ذلك إشارة إلى تلوث المنطقة الجرديّة في جبيل، وخاصّة أنّ نهر إبراهيم ينبع من نبع أفقا، كما من نبع الرويس».
الخطر كبير، وهو يأتي في سياق التهميش والحرمان الذي تعانيه البلدة في ظلّ غياب الطرق المؤهلة والمدارس الرسميّة والمستشفيات وبيت للثلج ومستوصف مجهّز ومركز للدفاع المدنيّ (بعد نقل آلية الدفاع المدني التي كانت في البلدة إلى بلدة أخرى)، عنها، بالإضافة إلى غياب شبكة للمياه ونظام تأهيل للكهرباء وحرمان المنطقة من المشاريع الإنتاجيّة التي تؤمّن فرص العمل للمواطنين وتخفّف من البطالة ونزوح الأبناء إلى السواحل.
ويرجّح أن يتحول غياب الشبكة إلى كارثة بيئيّة وصحيّة ما لم يؤخذ على محمل الجدّ، وما لم تبادر الجهات المسؤولة والمعنيّة إلى فحص المياه للتأكد من سلامتها، فالعاقوريّون يصرّون على التأكيد أنّهم «ليسوا فقط لضرب السيف» كما يشاع عنهم، وأنّهم يحرصون بجميع الأشكال على رفع الضرر عنهم وعن أبناء المنطقة.