إيمان الجابر «ذات يوم سيكون لي حكاية أرويها، بل حكايات، وسيحب الناس حكاياتي، لأنها عن بشر يشبهونني، يحلمون بالحب والعدالة الاجتماعية...». سكن هذا الهاجس هاني السعدي منذ كان في الثانية عشرة... يدفع عربة الخضار أمامه، ويجول بمنتَجاته في أحياء دمشق الراقية بين الروضة وأبو رمانة والمالكي. كان يبتعد عن الأحياء الشعبية الفقيرة، ويفضّل البيع في الأحياء الثريّة، لأنّ «أحلام اليقظة تنشط فيها تعويضاً عن الواقع المعيش». هكذا، كان يدفع عربته مطلقاً العنان لخياله: «كنت أراقب المنازل الجميلة، والناس الأثرياء، والسيارات الجديدة، وأحلم بأن أسكن هناك ذات يوم». بقي صوت الذاكرة يئن، في خضمّ البحث عن لقمة العيش، تحت الحر الشديد والبرد القارس، إلى أن كتب الفيلم التلفزيوني «خيال بائع جوال» الذي أخرجه حاتم علي. حينها فقط، خفّ الأنين... لكنه لم يختفِ.
لاحقاً، كتب هاني السعدي أكثر من 1200 ساعة تلفزيونية، ليتكرّس أكثر كتّاب الدراما السوريّة جماهيريّةً، وينال أعلى أجر في تاريخها حتّى الآن. بدايات صاحب «الجوارح» كانت في فلسطين في قضاء الناصرة (قرية صفورية). هُجِّر من هناك وهو في رحم أمه، خلال النكبة. بعد النزوح بشهرين، وُلد السعدي في جامع البخاري (منطقة عين الكرش ـــــ قلب دمشق). أقامت عائلته المهجرة في ذلك الجامع سنتين. «تقاسمنا مع عائلة فلسطينية أخرى قاعةً واحدةً، تفصل بيننا ستارة من القماش»، يخبرنا. عمل والده مزارعاً وبائع خضار وفاكهة على عربة يجرها ويدور فيها في شوارع دمشق، إلى أن انتقلت الأسرة إلى حيّ جوبر، ثم إلى حيّ الميدان، قبل أن تعطيهم «هيئة الأمم المتحدة» أرضاً في مخيم اليرموك لبناء منزل عليها.
كبرت العائلة: ستة صبيان وبنتان، كان هاني الثاني بينهم. كان الفقر سيفاً مصلتاً على رقاب الأطفال، فراحوا يسابقون الزمن ليكبروا ويعملوا مع أبيهم. إلى جانب العمل في مهن متعددة، تابع دراسته مع إخوته في مدارس «الأونروا» في المخيم. بعد حصوله على الثانويّة العامّة، التحق بدار المعلمين، وعيّن أستاذاً في دمشق مطلع السبعينيات، قبل أن ينتقل إلى مدارس «الأونروا».
تكتسب تعابير وجهه شيئاً من الحنين والسعادة حين يخبرنا أنّه كان يخصص الدقائق العشر الأخيرة من حصته لحكاية يبدأها مطلع العام الدراسي، ولا تنتهي إلا مع نهايته... «كان الكسالى من الطلاب يعاقَبون بعدم سماع الحكاية»، يخبرنا. «أعتقد أنّ هذه الطريقة أفادتني في تدريب خيالي على اختراع حكايات متسلسلة».
التعليم كان مهنة. أما الموهبة والهواية، فكانت تسرح في أماكن أخرى. «كنا مجموعة أصدقاء في المخيّم نهتم بالسينما والمسرح والتلفزيون، لكل واحد منّا حلمه الخاص في هذا المجال... السيناريست حسن سامي يوسف، والمخرج غنام غنام، وأنا».
مطلع السبعينيات، اتجه هاني السعدي إلى التلفزيون ليشارك في أدوار صغيرة مع المخرجين غسان جبري، شكيب غنام، سليم موسى إلى جانب كتابة المسلسلات الإذاعية والقصص، حتى جاءت فرصته الأهم من المخرج علاء الدين كوكش في مسلسل «أولاد بلدي» عام 1972. تعددت الأدوار والفرص، لكنّها بقيت محدودة، بسبب ضآلة الإنتاج التلفزيوني حينها، فما كان منه إلا أن قرر الكتابة للتلفزيون بحثاً عن مصدر آخر للعيش إلى جانب التمثيل والتعليم... «من بين الأصدقاء، كان المخرج هيثم حقي الذي نصحني بالتفرغ للكتابة».
هكذا، كتب أوائل أعماله «دائرة النار» و«حارة نسيها الزمن» و«غضب الصحراء» و«البركان»، وقدمها كلها للرقابة في التلفزيون السوري في مطلع الثمانينيات، فرفضت جميعها، ولم يرد في تقرير الرفض أي عبارة غير كلمة مرفوض. باع «حارة نسيها الزمن» للمنتج الأردني عبد الرحمن العقرباوي، فنُفِّذ العمل في عمّان وأخرجه سالم الكردي عام 1991. بعد عرضه على محطات عربية عدّة، ومنها المحطة السورية، قرر هاني السعدي تقديم الأعمال المرفوضة مرة ثانية... فجرت الموافقة عليها كلّها. هكذا، بدأت رحلته مع النجاح والشهرة، انطلاقاً من مسلسل «دائرة النار» لهيثم حقي الذي كان أول عمل سوري يصوّر خارج الاستوديو، وبكاميرا واحدة. وفي منتصف التسعينيات، شارك في أدوار صغيرة، قبل أن يتفرغ للكتابة التلفزيونيّة كاملاً.
تُعَدّ الفانتازيا التاريخية ماركة مسجلة باسم هاني السعدي، حفرت مكانتها على خريطة الدراما العربية من «الجوارح»، إلى «الكواسر»، و«البواسل»، وصولاً إلى «الموت القادم إلى الشرق»... سلسلة كان شريكه فيها المخرج نجدت أنزور، وصنعت شهرتهما عربياً معاً.
هل كان توجهه إلى الخيال لرواية التاريخ هرباً من التوثيق؟ «لا أهرب من التوثيق، بل من الرقابة»، يجيب. «هذه الأعمال، وإن اعتمدت على الخيال، إلا أنّ الواقع هو مصدرها. مسلسل «الموت القادم إلى الشرق» تناول القضية الفلسطينية على نحو ترميزي، وحقق نجاحاً ما كان ليحققه لو تحدث عن القضية بواقعية ومباشرة».
يكتب يومياً، فالكتابة مصدر رزقه الوحيد. «لا يمر يوم من دون أن أكتب... أخاف من الاسترخاء بعد نهاية أي عمل، حتى لا يصيبني الكسل. ما إن أنتهي من كتابة عمل، حتى تكون قصة العمل التالي قد أصبحت جاهزة في ذهني وأبدأ الكتابة. ربما لهذا، يُعتبر اليوم أحد أكثر الكتّاب غزارة وإنتاجاً. كدّس في رصيده أكثر من 43 عملاً تلفزيونياً وفيلماً سينمائياً يتيماً هو «ليل الرجال» للمصري حسن الصيفي عام 1976.
«أبو البنات» يعيش اليوم بين بناته الخمس وزوجته. ابنته روعة عرفت بأدوار عديدة على الشاشة قبل أن تعتزل، فيما لا تزال ابنته ربى تؤدي أدواراً في مسلسلات عديدة. خلال رمضان الماضي، عُرض له عملان، يبدو غير راضٍ عنهما، هما: «سفر الحجارة» ليوسف رزق، و«آخر أيام الحب» لوائل رمضان... يرى صاحب «البركان» أن التعديلات أساءت إلى نصّه. «سفر الحجارة» العمل الذي كتبه عن وطنه فلسطين، «كان حلماً كتبته منذ سنوات»، وتمنى ظهوره إلى النور ظهوراً لائقاً، «لكنّ التمويل كان دائماً العقبة الأساسية أمام هذا الحلم. فلا أحد يرغب بإنتاج أعمال عن فلسطين!».


5 تواريخ

1949
الولادة في دمشق

1970
تخرج من «معهد إعداد المعلمين» في دمشق، ومارس التدريس حتّى قدّم استقالته عام 1985

1994
عرض مسلسل «الجوارح» الذي حقق شهرته العربية

2009
كرّمه الرئيس بشار الأسد، ومنحه جواز السفر السوري

2010
كتب مسلسل «فرسان الظلام» وهو فانتازيا تاريخية ستنتجه «مدينة الإنتاج الإعلامي» في مصر، ويُعدّ لعملين هما «سباق التتابع» و«أنامل رقيقة»