غالباً ما تتضمّن مصطلحات المواطن اللبناني كلمة «مكأّب». يدسّها في أحاديثه كلّما حاول التدليل إلى حاله النفسية، إلى الدرجة التي باتت فيها أمراً بديهياً. لكن، بحسب الدراسات، هي ليست كلمة عابرة. هي تعبير حقيقي عن الحالة النفسية للمواطن اللبناني في مجتمعٍ مأزومٍ يعاني فيه «شخص من أصل أربعة من حالة نفسية وشخص من أصل 9 من حالة اكتئاب» (دراسة أجرتها جمعية إدراك ـ مركز الأبحاث وتطوير العلاج التطبيقي).
تقول الدراسات إذاً بأننا «شعب مكتئب». مع ذلك، لسنا فريدين في اكتئابنا، فمنظمة الصحة العالمية تشير إلى أن الاكتئاب بات من «العلل الشائعة على مستوى العالم برمته، حيث يؤثر على أكثر من 300 مليون شخص». وأكثر من ذلك، هو أحد العوامل التي تؤدي إلى الانتحار «حيث يموت كل عام ما يقارب 800000 شخص جراء الانتحار الذي يمثل ثاني سبب رئيسي للوفيات وما بين 10 و29 عاماً». وفي هذا الإطار، يعدّ لبنان من بين البلدان التي يقع فيها مرض الاكتئاب في «الدرجة المتوسطة»، بحسب الرئيس التنفيذي لجمعية إدراك، الدكتور إيلي كرم.

يراهن بعض المرضى على أن يشفوا بلا علاج على قاعدة «بيمشي الحال لوحده»
لكن، هذه الدرجة لا تعفي كون الصحة النفسية ليست بخير. وثمّة عوامل كثيرة لقول ذلك، منها العوامل «العلمية» التي تتحدث عن أسباب وراثية وتربوية تعود «إلى التربية في العائلة ما بين الطفولة وعمر 15 سنة»، ومنها العوامل الطارئة التي صارت مزمنة: الحروب التي فعلت فعلها في «النفسية»، فجرجرت إلى الاكتئاب أمراضاً أخرى، إذ يشير كرم إلى أن الاكتئاب في غالب الأحيان لا يأتي وحيداً، وإنما مصحوباً بحالات نفسية مرضية أخرى مثل «القلق». هذا ما جلبته الحروب التي تنبت في كل حين. مع ذلك، لم يتنبّه هؤلاء إلى خطورة عبارة «اللبنانيون ليسوا على ما يرام»، والدليل؟ نسب المصابين بهذا المرض ونسب من يتابعون العلاج. ففي الوقت الذي يطال الاكتئاب شخصاً من أصل 9، لا يتلقى العلاج أكثر من «10%». هؤلاء «هم من يذهبون إلى الطبيب النفسي للتشخيص ومتابعة العلاج». أما البقية؟ فإما يراهنون على أن يشفوا بلا علاج على قاعدة «بيمشي الحال لوحده» أو أنهم لا يعرفون أنهم مصابون بتلك الحالة النفسية. هذا ما يقوله كرم، استناداً إلى دراسة أجرتها «إدراك» وتصدر نتائجها قريباً. ثمة نقطة أخرى هنا، وهو الإجابة عن سؤال محوري: إلى من يلجأ «المكتئب» للعلاج؟ هنا، لا جواب واضحاً. ففي جولة على آراء عددٍ من الأطباء، بغضّ النظر عن اختصاصهم، أشاروا إلى أن «هذا المرض تختلف متابعته الطبية بحسب اختلاف الحالة». وفي هذا الإطار، أشار كرم إلى أنّ «الطبيب النفسي هو الأقدر على تقييم حالة المريض النفسية، ولكن ذلك لا يمنع مثلاً أن يقوم طبيب صحة عامة بمتابعة مريض الاكتئاب ووصف العلاجات له، تماماً كحالة طبيب مرض السكري وطبيب الصحة العامة، فإن كان طبيب الغدد الصماء هو الأقدر على متابعة وضع مريض السكري، إلا أن ذلك لا يعني أن طبيب الصحة العامة لا يستطيع وصف دواءٍ له»!
بغضّ النظر عن كل ذلك، وبعيداً عن تشعّب الاختصاصات، إلا أنّ ثمّة ما يجب الالتفات إليه وهو كلفة العلاج «المدوبلة» ما بين العلاج النفسي وعلاج الأدوية. فإذا ما قرر المريض متابعة حالته، فيفترض به أنه «عالم مسبقاً أن الكلفة مرتفعة بعض الشيء». فالمتابعة النفسية «بدها فلوس»، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العلاج بالأدوية، خصوصاً في ظل عدم وجود تغطية للكثير من أنواع الأدوية، سواء بالنسبة إلى الصناديق الضامنة أو شركات التأمين الخاص. هذا السبب وحده يدفع الناس إلى انتظار المرض أن «يذهب لحاله»! وإن كانت وزارة الصحّة العامة قد تعهّدت بأن تبدأ «في عام 2018 بتغطية الصحة النفسية كجزء من مشروع التغطية الصحية الشاملة بإدارة قسم الرعاية الصحية الأولية وبدعم من البنك الدولي»، بحسب ما يشير وزيرها، غسان الحاصباني... علّها لا تكون استراتيجية «تركيب طرابيش» هي الأخرى.
تجدر الإشارة إلى أن منظمة الصحة العالمية اختارت «دعونا نتحدث عن الاكتئاب» كشعار ليومها العالمي لهذا العام، لافتة إلى أنّه برغم شيوع هذا المرض إلا أنّ من يتلقون العلاج هم «أقل من نصف عدد المتضررين في العالم، أي بحدود 10% فقط». أما السبب؟ فاسألوا الدول العاطلة.