بعد أن تكون علاقة الأولاد مع محيطهم مقتصرة على الأم في الأشهر الأولى من حياتهم، يدخل إلى العلاقة الثنائية طرف ثالث ألا وهو الأب، يحاول الرجل عادةً التقرب من أولاده وجذبهم إليه. لكن أحياناً لا تكون هذه العلاقة متينة، فيشعر الأولاد بغياب والدهم عنهم وبالحاجة الماسّة إلى أن يعبّر لهم عن حبّه واهتمامه بمشاكلهم، فما الذي يدفع الأب إلى الابتعاد عن أولاده؟ وما هي تأثيرات ذلك عليهم؟

دعاء السبلاني
نور ش (18 عاماً) بـ«مسافة معنوية» تفصلها عن والدها، فهو طبيب لا يغادر عيادته من الصباح حتى المساء، وأحياناً يتابع عمله في المستشفى حتى صباح اليوم التالي، في أيام العطلة لا «يضيع» الطبيب الناجح وقته بالجلوس مع عائلته، فهو يستغل العطلة ليسافر ويتابع المؤتمرات. تقول نور «لا نلتقي أنا وأبي إلا نادراً بسبب عمله الذي لا أعرف متى يبدأ ومتى ينتهي، وفي أوقات فراغه لا يجلس معي لنتحدث عن يومياتي، ولا يسألني عن دراستي، ولا عن حاجاتي أو مشاكلي»، تضيف نور «أحب أن يشاركنا فرحه وهمومه، أرغب أن يسألني عما أريده، فهو يرسل إليّ المال مع والدتي. أحلم بأن يصطحبنا في رحلة أو أن نمضي يوماً كاملاً برفقته». نور لا تعتقد أن والدها «قاسٍ» بل تصفه بـ «غريب في المنزل يتعب لتأمين احتياجاتنا المادية وعلينا احترامه»، أما والدتها، فهي«صديقة تحفظ كل أسرارنا وترافقنا في كل مكان».
يردّ المعالج النفسي إيلي الغزال ضعف العلاقة بين أب وأولاده إلى العمل، ويقول «قد يحتم عمل الأب ابتعاده عن أولاده لأوقات طويلة، فلا يستطيعون رؤيته إلّا نادراً، وبالتالي يصعب تقرّبهم منه...»، ويلفت الغزال إلى مشكلة أخرى «فقد يفضّل الأولاد الابتعاد عن آبائهم إذا أدّت الأم دوراً في ذلك، عندما تكون الأم مطلّقة أو تعاني مشاكل زوجية، فإنها تؤدّي أحياناً دوراً سلبياً فتحاول إبعاد أولادها عن أبيهم، وترسم في مخيّلاتهم أفكاراً سيّئة عنه».
في حالات أخرى، يتأثر الرجل بالبيئة والعلاقات العائلية التي كبر في كنفها، فتُحكَم علاقته بأولاده بأساليب التربية التي نشأ عليها.
يقول عماد ح (20 عاماً) «والدي عصبيّ جداً، يشتم ويصرخ طوال النهار، ويغضب لأتفه الأسباب، لم تتحمّل والدتي عصبيته الزائدة ولامبالاته، ففضّلت الانفصال عنه، وهي تتحدث دائماً عن إهماله لها ولنا. أشعر بأنه لا يحمل أية عاطفة لنا، يذكر أقاربه ويزورهم، ولا يسأل عن أولاده وعن احتياجاتهم»، ويؤكد عماد أن علاقته بوالدته ممتازة «لأنها تقوم بدورين؛ دورها كأم، ووظيفة التعويض عما يحرمنا إيّاه الأب».
ربى ف. (16 عاماً) تقول «أشعر بأن والدي في وادٍ وأنا في وادٍ آخر ، وذلك رغم أننا نعيش في المنزل نفسه. أبقى في غرفتي دائماً ولا أراه إلا حين يصل من العمل، لا يحاورني ولا يسألني مثلاً إذا ما كنت أتألم عندما أمرض، لكنني ألاحظ أنه يهرب مني كي لا أرى الدموع في عينيه، يحاول إخفاء عواطفه دائماً إلا أنني أشعر بها». تعذر ربى والدها لأنه نشأ في كنف أب لم يظهر له أي اهتمام، وهو يعتقد أن العاطفة دليل ضعف عند الرجل.
تقول الدكتورة بيلا عون، وهي معالجة نفسية للأطفال والمراهقين، إن ثمة آباءً مهملين لأولادهم، فهم نشأوا في كنف آباء بدورهم «عديمي المسؤولية»، هذا إضافةً إلى أن ثمة رجالاً «يتهرّبون من المسؤولية لأنهم يخافون من الأبوّة». وتتحدث عون عن أسباب أخرى لابتعاد الأب عن أولاده ومنها «غيرة الأب من أولاده لأن زوجته تهتمّ بهم أكثر منه»، وهنا تشدّد عون على الدور الذي تؤدّيه الأم في تقريب الأب من أولاده، أو إبعاده عنهم، فالأم وسيطة في العلاقة الثلاثية (الأم ـــ الولد ـــ الأب).
تلفت المعالجة النفسية إلى أن «بعض الآباء لا يعرفون كيف يعبّرون عن عواطفهم، أو أن المجتمع الذي يعيشون فيه يرى أن إظهار الرجل لعاطفته يعدّ نقطة ضعف»، وتضيف «في بعض الحالات فإن الأب يشعر بالذنب لأنه ابتعد عن أولاده، وهذا الشعور يمكن أن يحطّمه، ويسبّب له انهياراً عصبياً وفشلاً في كل أعماله».
تنصح عون الآباء بأن يلعبوا مع أولادهم بألعاب تربوية «مثل المونوبولي والشطرنج و Puzzle... فمن شأن ذلك تمتين العلاقة بين الطرفين»، كما يُنصح الأب بالتعبير عن حبه لأبنائه، وبأن يكون ليّناً في التعاطي معهم، وتشدّد عون على أهمية أن يستمع الرجل إلى أولاده، وأن يتواصل معهم، «وفي المقابل نطلب من الولد أن يتقرّب من والده من خلال دعوته للذهاب إلى أي مكان كالسينما مثلاً، أو إعداد الطعام له ودعوته إلى مشاركته بتناوله».
العلاقة غير المتينة بين الأب وأولاده تنعكس سلباً على الأولاد، إذ تقول المعالجة النفسية والاختصاصية في علم النفس العيادي كلوديا نعمة إن غياب الأب يعني غياب الدعم العاطفي «وهذا ما يخلق ردات فعل متباينة عند الأولاد، فإما أن يتعلّقوا به أكثر ويفعلوا المستحيل للتقرب منه، ويقلّدوا تصرفاته، وقد يختارون مهنته أيضاً كي يجذبوا انتباهه، أو أن يبتعدوا عنه بسبب إهماله لهم، ويتصرّفوا على عكس قناعاته ليلفتوا انتباهه أيضاً».


آثار الغياب

تشير كلوديا نعمة إلى أن غياب الأب يعرقل التخلّص من عقدة أوديب، الأب يمثّل «القانون» وهو الذي يفصل الأولاد عن الأم بطريقة إيجابية. إذا لم يتماهَ الصبي مع والده «فمن الممكن أن يتماهى مع أمه وتصبح شخصيته أنثوية». أما بالنسبة إلى الفتاة، فلن تستطيع الانتقال إلى مرحلة التعلّق بالأب (عقدة ألكترا) كي تختار شريكاً من الجنس الآخر، فتكره الرجال، أو تتزوج رجلاً يكبرها كثيراً في السن، وقد تتزوج الفتاة رجلاً يشبه والدها بتصرفاته لتعوّض غياب الأخير. تضيف نعمة «إذا لم يكن الأب موجوداً في المرحلة الأوديبية فإن الأولاد يستمرون في التعلق بأول حب في حياتهم وهو حبّهم لوالدتهم. وهنا تظهر أمراض نفسية مثل انفصام الشخصية، والاضطراب المزاجي المَرَضيّ، كما تظهر الاضطرابات الغذائية السلوكية، مثل الأنوركسيا والبوليميا