نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

زار العراق في الثاني من تموز الجاري رئيس الوزراء الفرنسي بصحبة وفد من ثلاثين شخصاً، كلهم من رجال (ونساء) الأعمال: وزيرة الاقتصاد، ورئيسة «الميديف» (نوع من نقابة لشركات الأعمال)، ومدراء كبرى شركات النفط والمحركات والسلاح والاتصالات والإسمنت... حتى قال واحد منهم إن الوفد كان يمكن أن يضم كل الشركات الأربعين الكبرى المسجلة في البورصة. كانوا «يريدون حصة فرنسا من السوق العراقية الكبيرة». وقعوا عقوداً هناك وعادوا في يوم واحد.
ثم جاء جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي بعدهم بيوم، يزور بمناسبة العيد الوطني لبلاده الجنود الأميركيين المنسحبين لتوّهم من المدن. وهو لم يتكلم في الأعمال، فالولايات المتحدة تسيطر على الكعكة كلها هناك، والآخرون هم من يريدون قطعة منها. هو تكلم عن «المصالحة الوطنية»، فهذا ما كلفه به الرئيس أوباما. ولكنه نسي الطبيعة الدبلوماسية والسياسية لمهمته، ولم يحضره إلا أنه محتل (فالطبع يغلب التطبّع!)، وهدد بأن واشنطن «ستغير التزامها إذا ما عاد العنف إلى العراق». قبلهما كان السيد نوري المالكي يصرح، كدلاّل شاطر، أن «العراق يعوم على بحيرة من النفط»، مستدرجاً تنافس الشركات البترولية العالمية لاستغلال ثمانية مواقع جديدة. والشركات تلك تصرفت ببطر، فلم تعجبها الشروط، ولم يُوقَّع إلا عقدان، وتقول الأخبار إن المزاد سيُعاد فتحه بعد حين.
وبينما السادة الكبار يتفاوضون ويبتسمون بتفاؤل لعدسات التلفزيونات في أماكن أنيقة مكيفة، جفت تماماً أهوار العراق. ما تعينه الميثولوجيات كجنائن عدن المفقودة لم يكتف هذه المرة بخروج آدم وحواء منه بل اختفى هو نفسه، وراحت حيوانات غريبة، أفاع ووحوش أسطورية اعتادت الحياة فيه، تهرب منه وتهيم، مهاجمة القرى القريبة. ملايين الطيور المستوطنة والمهاجرة فقدت أرضها، ولن تستريح هناك بعد الآن في رحلتها ذهاباً وإياباً من سيبيريا إلى جنوب أفريقيا. أنواع نادرة من الأسماك نفقت على رمال كانت يوماً بحيرات. وبادت غابات القصب العملاق. انحسر أكثر من تسعين بالمئة من العشرين ألف كيلومتر مربع، وتهجّر الناس الذين عاشوا هناك منذ الخليقة. حين جففها صدام حسين عامداً متعمداً، رداً على لجوء مجموعات من المتمردين إليها، قال العالم: يا للجلافة! وناحت منظمات البيئة وحقوق الإنسان، وأدانت الجريمة. ثم استمر التجفيف: تركيا وإيران تقيمان سدوداً فتحولان دجلة والفرات إلى سواقٍ، وهما ما يرفد الأهوار بالماء. ويتكفل الإهمال والأمراض والتلوث بالباقي.
يعادل التلوث الذي سببته أيام حرب احتلال العراق ما تنفثه 25 مليون سيارة من غاز على مدى عام كامل. تحركت مرة اليابان لإنقاذ الاهوار، وأجرت دراسات وأرسلت خبراء ووقعت معاهدات ورصدت أموالاً، ومثلها فعلت كندا... ولكن لا شيء يُنجز في العراق. تقرير الصليب الأحمر الدولي يعطي مثالاً معبراً: رصدت شركة أميركية ميزانية تبلغ مئة مليون دولار (كانت في الأصل 37 مليوناً ولكنها رفعتها باطّراد!) لبناء محطة لتكرير مياه الصرف الصحي في مدينة... الفلوجة! ربما استمالة للسكان، بعد كل القنابل الحارقة التي أرسلتها الطائرات الأميركية عليهم. حدث ذلك عام 2007. ولكن مياه الصرف ما زالت عائمة في شوارع الفلوجة، والمحطة لم تنجز ولم تعمل، وإن كان ثمة بناء اسمه محطة التكرير، ومعدات، وحده الله يعلم إن كان حقاً هذا اشتغالها.
في 2007، انتشر وباء الكوليرا في العراق. بدأ من... كردستان، هذه التي يدّعي الحزبان الكرديان الحاكمان أنهما حوّلاها إلى جنة على الأرض، أماناً وبذخاً، وافتتحا فيها فروعاً لأفخم الفنادق العالمية ليستريح رجال الأعمال الكثر الذين يؤمّونها، وافتتحا فروعاً لأهم جامعات العالم، وأعطيا منحاً لطلاب منتقين من هناك لتحقيق قفزة جيلية حاسمة... الحاصل، أصيب الناس في كردستان بوباء الكوليرا الذي لا يصيب إلا الفقراء والمهملين. فكيف تحل معادلة التناقض؟
ما زالت بغداد لا تنعم بالكهرباء إلا لساعات قليلة في اليوم. ما زال هناك أربعة ملايين نازح، موزعين بالعدل على الداخل والخارج. ما زالت مياه الشفة لا تصل إلى البيوت، وخصوصاً خارج العاصمة، وهي في العاصمة ذات نوعية سيئة للغاية. ما زالت خدمات الصحة في أسفل سلّم الترتيب العالمي. وهناك تسجل أعلى نسب الإصابة بالسرطان في العالم، وتقول النكتة المرّة إن أمراضاً جديدة تختبر هناك.
كلفة إعادة الإعمار مقدرة بثلاثمئة مليار يورو. ولكن عائدات العراق من النفط لا تقل عن ثلاثين ملياراً في العام. فكيف تحل معادلة الفشل؟
زواج الحرب والفساد يولد النهب. والعراق عرف ثلاث حروب كبرى في ثلاثة عقود. وهو البلد الثاني في العالم على لائحة الفساد. سيتعين على المهتمين بمصير العالم، من مناهضي الحروب والاستغلال، مصلحين أو ثوريين، أن يقاربوا المثال العراقي كنموذج لتعريف كلمة «نهب».