ناهض حتر*بعد وقت قصير من فورة 1989، حين شُرّع العمل الحزبي والسياسي في البلاد في إطار ميثاق تفاهم، بدأت أشعر، أحياناً، بالحنين إلى ما كان قبل 89. ذلك الحنين أصبح يلح علي أخيراً، وقد أضناني فهمه حتى توصلت إلى أنني أحنّ في الواقع لا إلى شبابي، كما ظننت، بل إلى الوضوح والتمرد والحيوية والفعالية.
كنا يائسين من إصلاح النظام، فرأيناه كلاً مصمتاً ونهائياً، وقاطعناه. ما كان يعنينا إزاءه هو الدفاع عن الذات في مواجهة الاختراق والقمع. بالمقابل، كنّا ندرك الصعوبات الجمّة التي تعترض التغيير. وبين ذلك اليأس وهذا الإدراك، كنا نقرأ ونكتب ونناقش، ونتحرك لاستقطاب عضو جديد في مجتمعنا الخاص، ونلتقي للحوار والتضامن، كما للإخاء والصحبة، ونجتهد في تحسين أساليب الاتصال وخوض المعارك الثقافية والنقابية وانتزاع الاعتراف بهيئات اجتماعية جديدة تمثّل أذرعاً جديدة لعالمنا.
كل ذلك كان يستغرقنا تماماً. لم نكن نقرأ الصحف، بل الكتب. ولا نشاهد نشرة الأخبار، بل السينما. ولا نتوه في تفاصيل الحياة اليومية، بل نكرّس وقتنا للحوارات الفكرية. وكنّا متمردين على المجتمع الكبي، يهابنا ولا نهابه. يهابنا لأننا قادرون على تحدي النظام، ولا نهابه لأننا نشعر بالتفوّق الأخلاقي إزاءه، ولا يهمنا إرضاؤه. ما دامت الاختيارات حادة، فلا أحد يستطيع أن يمنحنا شيئاً، إلا إذا كان معنا أو جزءاً من عالمنا. وكنا متشددين على المستوى الفكري، ودّيين على المستوى الشخصي، متعالين على أصحاب الثروة والنفوذ والمناصب. وما يدهشني الآن، أن ذلك كله كان يعطينا، بالإضافة إلى الامتلاء الذاتي، حضوراً واحتراماً وفعالية لم تتوافر لنا عندما أصبحنا «معارضين». والسبب هو أننا كنا، في إطار الحركة الوطنية التقدمية، نخوض حرب مواقع فعلية على مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي، وكان حضورنا يمثّل مرجعية وطنية وأخلاقية للأجيال، ويؤثر بصورة غير مباشرة ولكن أكيدة، في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بينما تخلينا، في إطار المعارضة، عن مواقعنا كلها لنخوض في مستنقع من الأوهام، شطَبَنا كمرجعية وهبط بمستوى تأثيرنا.
على مشارف عام 1989، كان قد اتضح أن شكل الإدارة السياسية العرفي المنفصل عن جمهوره لم يعد يتوافق مع مستوى تطور المجتمع الأردني ومصالحه العيانية والمعالجة الناجعة لقضاياه وتمكينه من تحقيق ذاته. وقد توصّل العقل الجمعي الأردني إلى هذه الحقيقة، وأعلنها في انتفاضة شعبية فتحت الباب أمام تعبيرات ديموقراطية مستمرة مذاك في خطاب سياسي أهلي غارق في الأوهام الساذجة، تغذيها وعود ومناورات رسمية هدفها تحسين شروط إدارة الأزمة، وتزويق الصورة الخارجية، وتشتيت الفئات الشعبية والعناصر النشطة والسيطرة على وعيها، لا تقديم تنازلات سياسية واجتماعية لها.
إن طريق الإصلاح السياسي في القرار والآليات على المستوى الرسمي مغلق تماماً. وتنهض أمامه ثلاثة جدران عالية، هي:
التركيب السوسيو ــــ ثقافي والتاريخي لبنية السلطة السياسية المتكوّنة من نخب ومصالح متشابكة لا تعكس تمثيلاً اجتماعياً وطنياً. وهي لذلك مهددة في ظل أي إصلاح ديموقراطي حقيقي. فهذا الأخير من شأنه أن يؤدي إلى توزيع السلطة، أي الصلاحيات والنفوذ، وفقاً

إن اليأس من الإصلاح السياسي ينبغي أن يفتح بوابة العمل لبناء ديموقراطية مضادة من الأسفل
للتمثيل الاجتماعي ــــ السياسي. ما دام التراكم السلطوي الطويل، المدعوم من قوى كبرى، قد أدى إلى تبوُّء عناصر وعائلات ليس لها حيثيات تمثيل اجتماعية وطنية، قيادة معظم مواقع الحكم، فإنه كان ولا يزال من السذاجة أن نتصور أن تلك العناصر السلطوية قد توافق على مناوأة إصلاح ديموقراطي أو تكفّ عنه أو تتسامح معه، سيؤدي واقعياً إلى عزلها، وإضعاف دورها، والإضرار بمصالحها، إلا إذا كانت مضطرة لذلك جدياً. وهي ليست كذلك ما دامت الأغلبية الاجتماعية الوطنية لا تزال عاجزة عن بلورة مشروعها السياسي المضاد.
ويتمثل الجدار الثاني بسيطرة النيوليبرالية التي أصبحت قوانينها محور الاقتصاد الوطني ومحور البنية الاجتماعية المنقسمة بين طبقة جديدة متسعة العدد والنفوذ من الأثرياء والناشطين اقتصادياً، وبين أغلبية مُفقَرة ومهمشة. النيوليبرالية، بطبيعتها اللااجتماعية ونشاطها الكمبرادوري القائم على الوكالات والشراكات الخارجية، لا يقع الداخل الوطني في صلب نشاطها الاقتصادي أو ارتباطاتها السياسية أو مصالحها الكبرى. وهي، لذلك، لا تنبذ الديموقراطية والرقابة والمحاسبة فقط، بل تعتبرها مجرد عقبات «رجعية» وبيروقراطية تعرقل مشروعها. وإذا كان قَدْر محدود من الديموقراطية المنخفضة جداً ضرورياً، من وجهة نظر الطبقة السياسية، لإدارة العلاقات العامة الدولية، فإن الجناح الاقتصادي من تلك الطبقة يضيق ذرعاً بكل ديموقراطية، مهما كانت منخفضة، ويفضّل طبخ القوانين التي يريدها في مكاتب استشارية تجارية، ومن ثم إقرارها في قوانين مؤقتة.
الجدار الثالث يتمثل في الشلل الحاصل على مستوى حل القضية الفلسطينية أو حتى تحديد اتجاه مستقبلها، ووقوعها في حالة غموض لا نعرف معها مستقبل التكوين الديموغرافي السياسي للأردن، ولا مآلات الانقسام الأهلي الحالي الناجم عن ذلك الغموض.
لكل ذلك، فإننا نرى أن سجالاً جديداً حول أوهام الإصلاح السياسي هو مضيعة للوقت الثمين الذي يحتاجه المجتمع الأردني لتلافي تدهوره التاريخي. وهو تدهور بدأت تظهر رؤوس جباله الغاطسة تحت الماء. ومن ذلك عودة الوعي العشائري والجهوي لما قبل الدولة، وتجاهل القانون وتحديه، والعنف الاجتماعي، وتدهور التعليم في كل مستوياته، وتدهور الإنتاجية والخبرات والمهارات، وتحوّل الفقر والتهميش الاجتماعي إلى واقع صلب، وفقدان روح المواطنة الحديثة، وانتشار الفوضى. عدا تنامي الانقسام الأهلي الرئيسي بين الأردنيين ومواطنيهم من اللاجئين الفلسطينيين بصورة خطيرة تهدد استقرار البلاد.
ونحن لا نماري في أن إصلاحاً ديموقراطياً جذرياً، أو حتى نصف جذري، يمثل قارب نجاة للمجتمع الأردني والدولة الأردنية. لكن إصلاحاً كذاك يواجه الجدران الثلاثة التي أشرنا إليها أعلاه، بينما لم تتبلور بعد كتلة وطنية ديموقراطية قادرة، ولا ظروف إقليمية ودولية تساعد على كسر تلك الجدران.
ما العمل إزاء هذا التعقيد التاريخي، حيث الديموقراطية، المستحيلة على مستوى تركيب السلطة السياسية، هي ضرورة حياة لمجتمع قطع شوطاً من التطور ثم عَلِقَ على السلّم؟
في رأيي، أنه لا بد للوطنيين والتقدميين من العودة إلى «حرب المواقع». إن اليأس من الإصلاح السياسي ينبغي أن يفتح بوابة العمل لبناء ديموقراطية مضادة من الأسفل. وهنا يمكننا أن نضع لائحة بمهمات حرب مواقع ممكنة وناجعة للغاية.
فالهجمة النيوليبرالية على العشائر لا تعكس أبداً نزعة مدنية، بل تلح كإدراك قتالي من النيوليبراليين لقدرة تلك الوحدة الاجتماعية المقاومة. العشيرة هي المنظمة الوحيدة التي بقيت بعد تدمير كل الروابط المدنية في البلاد على أيدي النيوليبراليين. ولا يمكن الوطنيين التقدميين تجاهل الإمكانات الخصبة التي تتيحها العشيرة لنشاطهم الديموقراطي. وإذا كانت العشائر قد انقسمت، بالفعل، بين أقليات مثرية ومستفيدة من البنية السلطوية وأغلبيات مُفقَرة ومهمشة وعنفية، فإن المعركة لعزل الوجهاء والمتنفذين أصبحت ممكنة أكثر من أي وقت مضى. ويتطلب التحويل الديموقراطي للعشائر، استعادة روح التضامن والتعاون والمساواة وتقاليدها، والعودة إلى النشاط الزراعي التقليدي، وإعادة توجيه النزعات العنفية لدى شباب العشائر نحو التمرد السلمي على الإفقار والتهميش، وتطوير المهارات وتعزيز الإنتاجية. ومن شأن دمقرطة العشيرة وتمدينها من الداخل واستعادة دورها الإنتاجي ــــ رفقة التثقيف السياسي وبث الوجدان الوطني والمناقبية ــــ أن يقود إلى إطلاق روح وحدوية على المستويين المحلي والوطني.
الوجه السياسي من هذه التجربة ليس جديداً. فالحركة الوطنية الأردنية انطلقت في العشرينيات، بما في ذلك تأليف عصابات القتال ضد الصهاينة، من حراك عشائري. وهي تبلورت تنظيمياً وبرامجياً في مؤتمر وطني عام 1929، هو في الحقيقة مؤتمر يمثل العشائر في البلاد. من الممكن إطلاق حراك كهذا يستغني عن البرلمان المزيف، بمجلس وطني أصيل لممثلي العشائر في نسختها الجديدة.
لا يغفل ذلك شن حرب المواقع في النقابات والجمعيات والهيئات الاجتماعية والثقافية والجامعات إلخ، من منظور إعادة التأسيس الوطني المدني، واستعادة الروح الاجتماعية والمعايير الأخلاقية المرتبطة بالإنتاج والإنتاجية، والعداء للرأسمالية.
وبدلاً من توجيه المطالبات الديموقراطية غير القابلة للتحقق، ينبغي بذل جهود مضاعفة لدمقرطة الوعي العام، وخلق أطر شعبية لإدارة الصراعات والتناقضات الموضوعية، بما فيها التناقض الأردني ــــ الفلسطيني، وحلها سلمياً على أساس الشراكة الاجتماعية والقومية ومواجهة استحقاقات معركة المصير مع الصهيونية.
ولن تتسع هذه المساحة لتعداد الممارسات والأطر المقترحة لبناء الديموقراطية من الأسفل، إلا أنه حالما يقطع الوطنيون التقدميون ذلك الحبل السري مع النظرة الليبرالية وموقع المعارضة، إلى النظرة الديموقراطية وموقع التجاوز التاريخي، فإنهم سيكتشفون آلاف الوسائل لخوض حرب المواقع، والانتصار فيها.
* كاتب اردني