لم يكن غياب ابن زايد عن القمّة العربية التي انعقدت في جدّة الأسبوع الماضي، سوى أحد التعبيرات الصارخة عن عمق التأزّم في العلاقة مع ابن سلمان، والذي لم يعُد ممكناً إخفاؤه، أو العودة به إلى الخلف، بل مثّل تعبيراً عن أن الأول يمكّن دفاعاته استعداداً لأيام سود في تلك العلاقة، التي إذا استمرّت متأزّمة فستؤثر على المدى الطويل على دور الإمارات ومكانتها بصورة سلبية جدّاً. على أن الخيارات أمام الرئيس الإماراتي، كما تبدو حالياً، تنحصر في اثنين: إمّا الاستسلام لابن سلمان والبقاء تحت جناحه، وإمّا المواجهة، فيما يَظهر حتى الآن أنه اختار المواجهة، لأن الخيار الأوّل يعني عملياً التسليم بنهاية دور بلاده. فذلك يفترض، على سبيل المثال لا الحصر، قبول ابن زايد بقرار ابن سلمان نقل المقارّ الإقليمية للشركات العالمية الكبرى التي تعمل في السعودية إلى داخل المملكة، في حين أن خيار المواجهة يتيح له القتال لإبقاء تلك المقارّ، أو ما أمكن منها، في بلاده، واجتذاب المزيد.
نتائج قمّة جدة ظهّرت الخلافات العميقة المستجدّة بين الرياض وأبو ظبي
القمّة نفسها، التي أرادت الرياض تقديمها بوصفها قمّة «طيّ الصفحة»، بمعنى تحقيق ما أمكن من المصالحات بين العرب وبينهم وبين محيطهم، ظهّرت الخلافات العميقة المستجدّة بين حاكمَي الدولتَين، والتي تطاول الخيارات السياسية لكليهما، على خلفية جدواها في بقاء وازدهار كلّ من نظامَيهما، لا مبدأيّتها. وعلى هذا الطريق، جاء قرار ابن زايد المقصود بالإمعان الوقح في التطبيع مع إسرائيل، والاندراج تحت المنظومة الأمنية الإسرائيلية، في محاولة لاستخدام النموذج الإماراتي اللامع في تعويد من أثبتوا عدم قدرتهم على التعوّد، على وجود إسرائيل، وذلك يشمل شعب الإمارات نفسه. ولكنه، بسليقته التي ورثها عن أبيه، أذكى من أن يذهب في الخيار المذكور إلى حدّ تهديد الأمن الإيراني مثلاً، لما يرتّبه هكذا خيار عليه من عواقب. وفي المقابل، تنبّه النظام السعودي إلى فخّ التطبيع مع إسرائيل المنصوب له، والذي قد يصيبه في مقتل بالنظر إلى اختلاف الطبيعة السياسية للمجتمع السعودي، بمعنى أنه مجتمع كبير إلى درجة لا يستطيع معها أحد طمس هويته، بالمقارنة مع الشعب الإماراتي القليل العدد، والذي لا يملك إلّا التململ الصامت إذا رفض خيارات قيادته. ولذا انتقل ابن سلمان، بعد التغييرات الداخلية، إلى محاولة ترتيب أوضاعه في الإقليم، بالتصالح مع المحيط، ولا سيما إيران، من خلال سياسة «تصفير المشكلات».
إذا استمرّت المعركة الخفية حالياً، أو إذا خرجت إلى العلن، فستكون قاسية جداً، لكن نتائجها قد لا تظهر سريعاً، بما قد يوحي به حجم المملكة وإمكاناتها الهائلة. ذلك أن أبو ظبي أثبتت هي الأخرى، خصوصاً بعد انطلاق ما سمّي «الربيع العربي»، قدرتها على إثارة المشكلات وتمويلها بالاتفاق مع آخرين، وما حرب السودان - التي يرى البعض أنها أُشعلت في وجه السعودية ومصر تحديداً - إلّا نموذج أخير من بين عشرات الأزمات التي ساهمت الإمارات في افتعالها أو إذكائها. وعليه، قد لا ينبغي الاستخفاف بالمدى الذي يمكن لأبناء زايد الوصول إليه، للنجاة بدولتهم.