عمّان | في خمسة بيانات نشرتها وزارة الخارجية الأردنية في تغريدات منفصلة على صفحتها الرسمية، دانت المملكة الممارسات الإسرائيلية في المسجد الأقصى، وحذّرت من مغبّة التصعيد الخطير الذي يتحمّل مسؤوليّته الاحتلال وحده، وذلك بعد أن اقتحم جنود العدو ساحات المسجد، واعتدوا على المصلّين داخله بالهراوات وأعقاب البنادق، ما أدّى إلى إصابة نحو 200 مصلٍّ واعتقال 400 آخرين. في المقابل، طالبت وزارة الخارجية الإسرائيلية، الأردن، في تغريدة مضادّة، بتوجيه حرّاس الوقف بإخراج المعتكفين من الأقصى، واصفةً هؤلاء بـ«الخطرين والمتطرّفين والمحرّضين من حماس ومنظّمات إرهابية أخرى». ولم تأتِ هذه التغريدة اعترافاً من سلطات الاحتلال بـ«إدارة أوقاف القدس» بوصفها «الجهة القانونية صاحبة الاختصاص الحصري بإدارة شؤون الحرم كافة وتنظيم الدخول إليه»، كما ذكرت الخارجية الأردنية في بيان الخامس من نيسان، بل محاولةً للتعمية على استعار سعي العدو لإطباق الحصار على المقدسيين، وتغيير الوضع القائم في مدينتهم. وعلى أيّ حال، يتوّج هذا المشهد من تبادل الاتهامات والمسؤوليات بين الطرفَين الأردني والإسرائيلي، حالة من تراكم الاحتقان السياسي، الذي قاد إلى أخرى من الاحتقان الشعبي على المقلب الأردني، خصوصاً بعد عرض خريطة إسرائيلية تضمّ الأردن وفلسطين وأجزاء من لبنان وسوريا على منصّة كان يتحدّث عليها وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، في باريس. وعلى رغم ذلك، عجز مجلس النواب الأردني عن اتّخاذ إجراء تصعيدي مِن مِثل طرد السفير، ولم يتجاوز حدود التصويت على هذا الإجراء فقط، فيما استمرّت أشكال الاحتجاج المحدودة المتكرّرة والتي لا يلمس الناس أثراً لها، وواصلت السلطات انخراطها في القمم التطبيعية الأمنية في العقبة وشرم الشيخ، في الوقت الذي تابع فيه وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، الدفع في اتّجاه إقرار صلاحيات أوسع للقوات الإسرائيلية والمستوطنين في المسجد الأقصى، والسماح للأخيرين بممارسة الشعائر التلمودية كالسجود الملحمي وذبح القرابين فيه.
منذ عام 1852، حدّدت السلطات العثمانية الحقوق في الأماكن المقدّسة، بما يمنح المسلمين حقّ العبادة الخالص والحصري في المسجد الأقصى، وهو ما اعترف به مؤتمر باريس ومعاهدة برلين والانتداب البريطاني حتى اندلاع ثورة البراق عام 1929، والتي أسفرت عن اعتراف عصبة الأمم بملكية الحائط الغربي وساحة الحرم الشريف للمسلمين وحدهم. يشير الوضع القائم إلى الظروف التي كانت قائمة قبل حرب عام 1967، في حين شكّلت هذه المحطة بداية محاولات الاحتلال تقويض ذلك الوضع بعد استيلائه بالقوة على حائط البراق، وإنشاء ساحة صلاة كبيرة لليهود، وتوجيه رسالة إلى مدير الأوقاف وقتها، حسن طهبوب، بضرورة وضع كل وثائق مديريته تحت تصرّف وزارة الأديان الإسرائيلية. لا يخفى على الإدارة الأردنية، التي لم تضمن دورها ووصايتها بشكل محدّد في «اتفاقية وادي عربة» التطبيعية، تطوّرات التدخّل الإسرائيلي في إدارة الحرم القدسي، إذ أقرّ وزير الخارجية، أيمن الصفدي، بأن طاقم الأوقاف الأردنية في القدس، والمكوَّن من 70 حارساً، عاجز عن مواجهة الشرطة الإسرائيلية، وأن الأردن وحده لا يستطيع وقف الاعتداءات على الأقصى.
أعلن المقدسيون الاعتكاف هذا العام وحشدوا له كما لم يفعلوا من قَبل


في العام الماضي، أثار قرار مدير المسجد الأقصى، الشيخ عمر الكسواني، منع اعتكاف الفلسطينيين في الحرم القدسي قبل العشر الأواخر من رمضان، وإخراجهم منه «لإتاحة الفرصة لتنظيفه»، سخطاً فلسطينياً. إذ تزامن هذا الإعلان في التاسع من رمضان مع سلسلة اقتحامات وطقوس أعلنت عنها «جماعات الهيكل» الاستيطانية. وعلى رغم أن شرطة الاحتلال تغلق المسجد الأقصى بعد صلاة العشاء مباشرةً، وتفتحه قبل أذان الفجر بقليل منذ سنوات، إلّا أن المقدسيين أطاحوا بالقرار عملياً من خلال التواجد الميداني والدعوات المكثّفة التي تجاهلت سياسة الأوقاف وإدارتها، ولم تنتظر العشرية الأخيرة. والجدير ذكره، هنا، أن المصادر التاريخية أجمعت على فتح أبواب الأقصى للاعتكاف في كلّ ليالي السنة وفي جميع ليالي رمضان، من دون الاقتصار على أيام محدّدة. ولذلك، أجاب مدير عام «دائرة أوقاف القدس»، الشيخ عزام الخطيب، حول سبب عدم فتح المسجد للاعتكاف كلّ أيام الأسبوع، قائلاً: «هذا موضوع سياسي، لا أستطيع أن أتحدّث فيه، هنالك بعض الأمور فوق طاقتنا، لا أكثر ولا أقلّ».
هذا التصعيد الشعبي الذي يرفع السقف بشكل مستمرّ، هو الذي يدفع الأوقاف إلى محاولة تفعيل دورها، وممارسة ما يتجاوز الهدوء الذي يخدم مصلحة الاحتلال. ولعلّ ذلك هو ما يفسّر أيضاً، قول الصفدي، في مقابلة تلفزيونية، إن «دائرة الأوقاف الأردنية ليس دورها أن تُحرّر الأقصى، ولا تستطيع أن تقوم بذلك إذا أردنا أن نكون واضحين، لكن وجودها يمنع الاحتلال من التسلّل إلى الفراغ الذي تعبّئه الأوقاف، وفرض السياسة الإسرائيلية بالكامل على الأقصى». بتعبير آخر، فإن إجراءات الأردن، في أحسن حالاتها، يمكن أن تمنع إسرائيل من التمادي في اعتداءاتها، في حين يعمل الغطاء البشري المقدسي على صدّ اقتحامات المستوطنين، وتساهم المقاومة في خلْق واقع جديد للتهدئة... التهدئة التي يريدها الفلسطيني وتعني امتلاك الأفضلية، لا التهدئة التي يريدها الصهيوني وتعني استساغة الاعتداء.
اليوم، الاعتكاف ليس مجرّد عبادة دينية، بل معركة على الهوية يعيد فيها المقدسيون تعريف السيادة والصلاحيات، والتي تتّسع مع كلّ محاولة رفض وعملية فدائية: أوّلاً، لأن التاريخ كان شاهداً كيف فرضت الإرادة الشعبية المقدسية التراجع عن مخطّط التقسيم الزماني عام 2015؛ وثانياً، لأن الاحتلال الذي منع السفير الأردني، غسان المجالي، من دخول المسجد الأقصى، مطلع العام، لا تردعه الرسائل الكلامية شديدة اللهجة، إذ لم يتوانَ عن مهاجمة وتقييد وصول المسيحيين إلى كنيسة القيامة في سبت النور بعد أيام قليلة من اقتحامه الأقصى، على رغم كلّ التحرّكات الإقليمية والدولية في ضوء الانتهاكات الإسرائيلية، بما فيها الاجتماع الطارئ لـ«جامعة الدول العربية» واجتماع «منظّمة التعاون الإسلامي» في جدة وجلسة المشاورات المغلقة لمجلس الأمن.
أعلن المقدسيون الاعتكاف هذا العام وحشدوا له كما لم يفعلوا من قَبل، وذلك لأن الحالة النضالية التراكمية في هبّة الأسباط وباب الرحمة وهبّة أيار الأخيرة، أنتجت وعياً يفهم الواقع الذي لا يؤثّر فيه إلّا القوة، ليس سعياً إلى دفع العدوان على المسجد الأقصى فحسب، بل وفرملة مسار تهويد المدينة وإدارة «الحوض المقدس» الذي يبدأ من حيّ الشيخ جراح ويضمّ البلدة القديمة في القدس، وصولاً حتى بلدة سلوان وسفح جبل المكبر. ويكشف الاعتكاف، في كلّ مرّة، عن مركزية الأقصى وشهر رمضان كشرارة لإشعال المواجهات والهبّات منذ عام 2000 حتى عام 2021، وفي ساحات وعلى جبهات داخل القدس وخارجها، وهو ما تسمّيه البيانات الرسمية بـ«دوامة العنف»، التي يبدو أن لا شيء غيرها يرغم الاحتلال على التراجع.