رام الله | مع قرب انتهاء شهر رمضان، تبدو الحصيلة ثقيلة على الاحتلال الإسرائيلي، الذي واجه في هذا الشهر اختباراً صعباً لقوّة ردعه، ستكون له انعكاساته على كلّ تقديراته وخياراته للمرحلة المقبلة. وإذ يبدو أن حالة التأهّب التي يعيشها العدو ستستمرّ طويلاً، من دون أن يَظهر إلى الآن أن الأخير بات مستعدّاً لردّ قوي كفيل بترميم «هيبة الردع»، قد يجرّه إلى حرب شاملة، فإن محور المقاومة أضحى في المقابل أكثر وثوقاً وأقدر على فرض خطوط حمراء في ما يتّصل بحماية المقدسات في الأراضي المحتلّة، واضعاً على رأس أولوياته إدامة الاشتباك وتعزيزه في الضفة الغربية، بوصفها خاصرة الاحتلال والأنجع في إيلامه
تشي محصّلة الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة و«منطقة الطوق» عموماً، بأن إسرائيل ستبقى تعيش في حالة تأهّب أمني، من دون أن تلوح لها نهاية قريبة إلى الآن. وعلى رغم أن شهر رمضان لم يشهد مواجهة شاملة كانت قد توقّعتها التقديرات الأمنية والاستخبارية، إلّا أن ما سُجّل خلال أيام الشهر قد يكون أكثر أهمّية من الناحية الاستراتيجية، بعدما تبلور شكل المواجهة القادمة، وتأسّست خطوط اشتباك جديدة، وتعزّزت قوة الردع على ضفة محور المقاومة. وجلّت تلك المحصّلةَ بوضوح مشهديةُ الصواريخ التي انطلقت من جنوب لبنان وسوريا على شمال فلسطين المحتلّة، بالتزامن مع انطلاق صواريخ مماثلة من قطاع غزة، وتواصل مسلسل العمليات الفدائية في الضفة الغربية المحتلّة، وتكاثر علامات الانفجار في الداخل الفلسطيني المحتلّ، والذي لا يفتأ يبعث بإشارات باستعداده للانخراط في أيّ مواجهة متعدّدة الساحات.
وتمظهرت وحدة الساحات في «يوم القدس العالمي»، الذي بدا استثنائياً لهذا العام، سواء في فعالياته أو في كلمات قادة المقاومة في خلاله، وعلى رأسها كلمة الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصر الله، الذي أكد «وقوف محور المقاومة خلف فلسطين والقدس والمسجد الأقصى». وكانت «حفلة الصواريخ» التي أعقبت تصاعد انتهاكات العدو في المسجد والقدس قد رسّمت خطوطاً حمراء بيّتة، وعزّزت حالة عدم الاستقرار لدى الكيان، وأثبتت أن المقاومة تضع على رأس أولوياتها تشكيل طوق حماية وردع للمقدسات، إلى جانب تغذية الاشتباك المسلّح في الضفة، كون الأخيرة مركز المعركة وخاصرة الاحتلال الرخوة. ومن هنا، فإن حالة التأهّب التي عاشتها دولة الاحتلال خلال شهر رمضان لن تنقضي بانقضائه؛ فما تأسّس خلاله سيصلح لكلّ زمان ومكان، بل إنه أظهر أن يديها مغلولتان عن أيّ ردّ قوي يعيد الاعتبار إلى قوّة ردعها المتآكلة، في الوقت الذي لا تزال فيه التحذيرات من تنفيذ عمليات فدائية إضافية في كلّ فلسطين المحتلة، قائمة وتتزايد.
وعليه، يبدو هدوء الساحات والجبهات كافة، وتحديداً جبهتَي غزة وجنوب لبنان، في الوقت الراهن، أقرب إلى استراحة يمكن أن تُقطَع في أيّ لحظة، وخاصة أن الجبهتَين المذكورتَين لهما ارتباط وثيق وعملي بحالة الاشتباك في الضفة، سواء عبر السعي إلى تشكيل الخلايا هناك، أو العمل على مدّها بالسلاح والمال. كما أن حالة الهدوء هذه لا تنطبق على الضفة، التي لا تزال تحافظ على وتيرة المواجهة عينها؛ إذ شهد حيّ الشيخ جراح، أوّل من أمس، عملية إطلاق نار أدّت إلى إصابة مستوطنَين، بعدما سُجّلت صباح الثلاثاء في مناطق متفرّقة اشتباكات مسلّحة بين مقاومين وقوات الاحتلال. وذكرت «القناة الـ 13» العبرية أن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية تترقّب بحذر الأسبوع المقبل، الذي يُحتمَل أن يكون أحد أكثر الأسابيع توتّراً خلال العام، بالنظر إلى وجود عشرات التحذيرات لدى الجيش و«الشاباك» من نيّة مقاومين تنفيذ هجمات مع أفول شهر رمضان، والذي يتزامن مع اقتراب «قتلى معارك إسرائيل وضحايا الأعمال العدائية»، وما يسمّى «عيد الاستقلال» الخامس والسبعين.
ما جرى من أحداث سياسية وأمنية في الأسابيع الماضية، لم يكن أيّ منها في مصلحة الاحتلال


وفي ضوء هذا الاستنفار، تحاول قوات الاحتلال ترميم صورة الردع المهشّمة، وخاصة في الضفة، من خلال الزعم الدائم باعتقال مطلوبين أو خلايا للمقاومة، على ما نشره الإعلام العبري في اليومَين الماضيين. إذ تحدّث عن اعتقال مقاومَين في مخيم جنين، لهما دور في إعداد وتصنيع العبوات الناسفة، وكذلك اعتقال شخصَين من منطقة رام الله، ذكرت مصادر عبرية أنهما كانا على تواصل مع أطراف مقرَّبة من «حزب الله». على أن هذه المزاعم لا تبدو كفيلة بالترميم المطلوب؛ إذ أظهرت أحداث شهر رمضان ارتداع إسرائيل عن أيّ ردود قوية خشية ذهابها إلى حرب لن تكون قادرة على خوضها، فيما أثبت محور المقاومة استعداده للسيناريو الذي دأبت الدوائر الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية على إبداء قلقها منه، وخصوصاً أن خيار المقاومة بات يحظى بتأييد شعبي متزايد في الضفة الغربية. وفي هذا الإطار، نشر «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» (INNS) تقدير موقف قال فيه إن «حركة حماس استحوذت على المشهد الفلسطيني على حساب السلطة الفلسطينية، بعدما حصدت إنجازات لا يستهان بها خلال الأسابيع الأخيرة؛ إذ حصلت الحركة على زخم كبير وسيطرت على الأحداث في الساحة». وأشار المعهد إلى أن «حماس استطاعت بناء بنية تحتية عسكرية في جنوب لبنان، من الصعب على إسرائيل ملاحقتها أو استهدافها؛ أوّلاً لقلّة المعلومات الاستخبارية عنها، وثانياً، لأن ذلك قد يدفع بمواجهة مع حزب الله اللبناني»، وهي المواجهة التي لا يريدها جيش الاحتلال ويبتعد عنها قدر الإمكان.
من جهتها، تبدو الإدارة الأميركية التي صبّت جهدها في الشهور الماضية لاحتواء الأوضاع في الضفة الغربية خلال شهر رمضان، ومحاربة المقاومة في جنين ونابلس، بالتنسيق مع السلطة وبعض دول الإقليم، كأنها فشلت فشلاً ذريعاً في مهمّتها، وقد أتت بنتائج عكسية، على رأسها دخول الجبهة الشمالية على الخطّ، سواء عبر عملية مجدو، أو عبر صواريخ الجنوب ورسائل الجولان المسيّرة والصاروخية. على أن التطوّرات السياسية لا تبدو أقلّ إزعاجاً وإقلاقاً لواشنطن وتل أبيب من تلك الأمنية، وخصوصاً لناحية الانفتاح العربي على سوريا، وحركة المصالحات الجارية في المنطقة، والتوجّه لإنهاء العدوان على اليمن. وفي هذا السياق، رأى الباحث في «معهد أبحاث الأمن القومي» الإسرائيلي، أساف أوريون، أنه «منذ سنة 2010، تموضعت إيران في الكثير من الفراغات التي نشأت في المنطقة، وكان أبرزها سوريا»، مضيفاً: «نرى اليوم نوعاً من إعادة انتظام شكّلته الولايات المتحدة الأميركية التي ركّزت على أجزاء أخرى من العالم، والتي أصبحت تبذل جهوداً أقلّ في الشرق الأوسط». ونبّهت وسائل إعلام إسرائيلية، بدورها، إلى أن الجبهة الأهمّ التي تشخّصها إسرائيل هي إيران، التي تضعف أكثر فأكثر محاولات عزلها، وبات «لديها الكثير من الثقة بالنفس، إذ إنها تشعر بأن العزلة انتهت، وأضحت ناشطة جدّاً في العراق وسوريا وتركيا. حتى إنّ من الممكن أن تنجح في تهدئة الحرب في اليمن».
بالنتيجة، ما جرى من أحداث سياسية وأمنية في الأسابيع الماضية لم يكن أيّ منها في مصلحة الاحتلال. إذ إن قوّة الردع التي دأب الأخير على التباهي بها تخلخلت إلى حدّ غير يسير، كما أن الخطوط الحمر التي اعتاد على تخطّيها لم يَعُد تجاوزه إيّاها يمرّ مرور الكرام، على رغم كلّ ما بذله في السنوات الفائتة من جهود من أجل تهشيم القضية الفلسطينية. والظاهر أن إسرائيل لا تكفّ، اليوم، عن تخيّل تفاصيل المواجهة الكبرى الآتية، والتي سيكون عنوانها آلاف الصواريخ يومياً من شمال فلسطين المحتلّة إلى جنوبها.