كثيرة هي المفارقات التي حملتها الرواية الرسمية السعودية لمقتل جمال خاشقجي. لكن أهمّها هو تلبيس الجريمة لعدة شخصيات من بينها سعود القحطاني، الذي قال يوماً إنه «لا يقدح من رأسه». عبارة تجلّي متانة العلاقة بين الأمير ومستشاره، الذي شكّل بيدقاً فاعلاً لمحمد بن سلمان في «الحرب الإلكترونية». لكن «مآثر» القحطاني لم تمنع عنه مصيراً أسود، لا يشبه البتّة أحلام سعود «الوردية» بـ«عنان السماء».مدهشٌ هو حجم المفارقات في سيرة سعود القحطاني. قبل أقلّ من أسبوعين، كان الرجل يسخر مِمّن يزجون باسمه في كل ما يتّصل بسياسات المملكة، حدّ القول «إنني جزار قطعت جثة إنسان وهو حي. يعني ديكستر القرن»! المضحك المبكي على السواء أن «سيّد» القحطاني، كما دأب هو نفسه على تسمية محمد بن سلمان، أظهر «موظفه ومنفّذ أوامره الأمين»، من خلال الرواية التي ساقها لمقتل جمال خاشقجي، على أنه «ديكستر» بالفعل، ذلك القاتل المتسلسل المحترف الذي شكّل مادة لمسلسل درامي أميركي مشهور. أراد ابن سلمان «كبش فداء» يلقي عليه دم خاشقجي، فلم يجد أمامه إلا نديمه وأحد أبرز خلصائه: سعود. مصير متوقع لرجل صغير النفس، تسلّق المناصب كما اللبلاب، وتملّق الأمير حتى أصبح قرينه، قبل أن يقلب له ابن سلمان ظهر المجن، ويرميه مثلما يتخلّص من أي قفّاز قديم.
بدأت رحلة القحطاني مع البلاط منذ عام 2003. في تلك السنة، عُيّن الشاب، المولود في الرياض عام 1978، مستشاراً قانونياً في سكرتارية ولي العهد، الذي كان حينها عبد الله بن عبد العزيز. وبعد أقلّ من سنة من ذلك، ابتسم الحظّ لسعود في مجال الإعلام الذي سيصبح نجمه لاحقاً، إذ أُسندت إليه إدارة الدائرة الإعلامية في السكرتارية نفسها. تكليف سرعان ما فتح عليه أبواب الترقي في عهد الملك عبد الله، حيث تدرّج في المناصب حتى بلغ رتبة مستشار في مكتب رئيس الديوان الملكي آنذاك، خالد التويجري، توازياً مع شغله منصب مدير عام مركز الرصد الإعلامي. المفارقة في تلك السيرة أن مطلع العام 2015 (تاريخ رحيل الملك عبد الله)، الذي أذن بأفول حقبة «السديريين» وبداية زمن «السلمانيين»، لم يشهد تصفية للقحطاني، مثلما وقع لرجالات عبد الله وأبرزهم التويجري.
قاد القحطاني جيشاً من الذباب الإلكتروني كانت له أدوار متعددة


تفسير «نجاة» الكاتب السابق في الصحف السعودية، والمتخرّج من «جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية»، يكمن في ثلاثة أسباب رئيسة: أولها أن سعود استشعر مبكراً جموح السلطة لدى ابن سلمان، فشرع يتقرّب من الأخير حتى قبيل وفاة عبد الله. وثانيها أنه أثبت مهارات جدية في مجال التجسّس الإلكتروني منذ عهد التويجري، وهو ما أغرى ابن سلمان وجعله ينظر إليه كعِدّة قديمة يمكن الحفاظ عليها. أما السبب الثالث، والأهم، فهو أن سعود خادم مطيع، لا يتمرّد على «مولاه»، ولا «يقدح من رأسه دون توجيه» كما يقول هو عن نفسه، ولا يمكن أن تراوده فكرة شقّ طرق موازية للطريق المرسومة من قِبَل «سيدي الملك» و«سيدي ولي العهد الأمين». كان يتلقّى الإهانات من التويجري على الملأ فيجيبها دائماً بـ«طال عمرك». وفي العهد الجديد، بدا مغتبطاً باللقب الذي أطلقه عليه معارِضو النظام، وهو «دُليْم» نسبةً إلى خادم لأحد زعماء قبائل نجد، كان «سيّده» يستنكف حتى عن أن يردّ التحية، فيقول له: «قل له يا دُليْم هلا». عبارة تحوّلت إلى وسم على موقع «تويتر»، لم يمانع القحطاني مراراً التغريد عبره.
منذ ما قبل وصول ابن سلمان إلى سدّة ولاية العهد، ومع تعيينه مستشاراً في الديوان الملكي برتبة وزير بأمر صادر من الملك سلمان في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2015، اشتغل القحطاني، بجدّ، على تعبيد الطريق لإطاحة محمد بن نايف، الذي كان لا يزال حينها ولياً للعهد، عبر الترويج للأمير محمد، وحشد الأقلام والحسابات الإلكترونية لصالح تلميع صورة الأخير والتبشير بـ«الخير» القادم على يديه. هي أشهر معدودات فعلاً ووصل ابن سلمان إلى المنصب الثاني في المملكة، لتبدأ إثر ذلك مرحلة جديدة سيكون فيها للقحطاني دور رئيس في حروب الأمير الداخلية والخارجية. ليس الحديث، هنا، عن جيوش إلكترونية يقودها المشرف العام على «مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الديوان الملكي» مبالغة أو تحاملاً يبديه معارضون. هو حقيقة واقعة خُصّصت لها أموال ومكاتب، واستُقطب من أجلها موظفون ومتعاقدون. هذا المركز عينه المشار إليه، والذي يغلّفه سعود في إحدى مقالاته بعبارات رنانة من قبيل «التخطيط الاستراتيجي» و«قياس الأداء» و«إدارة الأزمات»، ما هو إلا وكر للتجسّس والتشويش وبثّ الدعاية.
على أكثر من مستوى، قاد رئيس مجلس إدارة «الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة» ذبابه الإلكتروني بفعالية عالية. عبر وسوم مضادة لكلّ ما يمسّ بـ«صورة المملكة»، كان جيش الذباب هذا يتكفّل بإغراق وسوم المعارضين أو حتى المواطنين المحتجّين على بعض السياسات. عمليات تشويش دائماً ما ترافقت مع حملات للثناء على ابن سلمان وتبجيله، وفي الوقت نفسه التشنيع على خصومه ومنتقديه والتشهير بهم. بلغ الأمر بالقحطاني حدّ الإعلان عن «قائمة سوداء» لمن سمّاهم «مؤيدي قطر» في الأزمة الخليجية، ودعوة متابعيه على «تويتر» الذين يزيد عددهم على مليون و300 ألف إلى التفاعل مع القائمة، والتوعّد بمحاكمة من تَرِد أسماؤهم فيها. في ذلك الشقّ تحديداً، أي المتّصل بالخلاف مع قطر، «أبدع» القحطاني في أدائه، مُتصدّراً واجهة «الحرب» السعودية - الإماراتية على الدوحة، مُتسلّحاً بلغة استعلائية لا تغيب عن تعليقاته بشأن المعارضين السعوديين (مثلما ظهر في ترويجه لمشروع تحويل قطر إلى جزيرة). وهي تهديدات وتعليقات حملت، من بين أسباب أخرى، مراقبين غربيين على نعته بأنه يعاني من «عقدة نقص»، فيما تحدث معارضون سعوديون عن «ذات غير سوية داخله».
أما «المغامرة» الأكثر إثارة للقحطاني، والتي سيتخذها ابن سلمان ذريعة لإزاحته من المشهد، فهي تولّيه مهمة إقناع جمال خاشقجي بالعودة إلى السعودية مقابل «منصب رفيع المستوى» في حكومة المملكة. عرض قوبل بالرفض من قِبَل الصحافي السعودي، لتبدأ إثر ذلك سلسلة الترتيبات التي أفضت إلى مقتل الأخير في قنصلية بلاده في إسطنبول. لم يأخذ القحطاني حادثة القنصلية على محمل الجدّ والخطر. كان يهاجم ويستهزئ وفي ظنّه أن «طموحنا عنان السماء» و«لا يعرقلنا شيء» كما قال يوماً. خابت ظنون سعود، ومعها ظنون الأمير الذي نقل عنه الأول قوله له في أحد اجتماعاتهما: «بيننا لغة مشتركة». لعلّ هذه اللغة نفسها هي التي أفهمت القحطاني أن الموس يقترب من ذقنه بمجرد أن بدأ الحديث عن «أكباش الفداء». اشتدّ الخناق على ابن سلمان، وطار عقب ذلك مستشاره الأشدّ قرباً منه، لتبقى من بعد الأخير أشعاره التي تغنّى فيها بابن سلمان كلمات من دون أثر. أنشأ «ضاري» ذات يوم يقول:
وأخص فيهم خص ذاك الوليده
اللي ملا الدنيا بذكره بلهيان
محمد محمد يا عسى الله يزيده
من كل خير ويحفظه عالي الشان.