يتحصن داخل حيّي الخالدية وأبو الدريب في مدينة حمص نحو خمسمئة مقاتل، وفي مقابلهما توجد أحياء يقطنها علويون. وترتفع بين هذه الأحياء خطوط تماس بات لها طابع مذهبي. منذ عدة أيام، تدير وزارة المصالحة الوطنية مفاوضات مع أهالي المقاتلين الخمسمئة، الذين ابتعدوا عن مسرح الاشتباكات في مدينتهم، وباتوا يقيمون كمهجرين في أماكن أكثر أماناً.
الدولة تطلب منهم إقناع أبنائهم داخل حيّي الخالدية والدريب بتسليم سلاحهم، مقابل ضمانة بألا تجري مساءلتهم أمنياً، لكن من غير المحتمل أن تؤدي هذه المحاولات إلى نتائج فورية. المسلحون داخل حمص يوجد بينهم «غرباء» من جنسيات عربية وآسيوية، وهؤلاء لديهم أسبابهم لإبقاء المواجهة مفتوحة. كذلك فإن موقع حمص في الأزمة السورية هو أبعد أثراً من مجرد التفاوض مع مسلحين لقاء ضمانات شخصية لهم. من وجهة نظر أميركية، فإن حمص، داخل الأزمة السورية، تشبه منطقة وسط بيروت خلال أحداث الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت في عام ١٩٧٥. فلقد قاد تدمير وسط بيروت التجاري خلال المشهد الأول من أحداث الحرب اللبنانية إلى تحديد وجهتها لسنوات طويلة قادمة، بوصفها حرباً طائفية، رسمت بين جزءي العاصمة الغربي المسلم والشرقي المسيحي تماساً طائفياً ملتهباً، محمياً من معادلات دولية وإقليمية.
واليوم ينظر إلى حمص بوصفها المدينة التي يؤدي القتال فيها إلى تفكيك النسيج الاجتماعي والوطني السوري على أساس مذهبي. ثمة مؤشرات تؤكد أن هوية الأزمة السورية، لجهة ماهيتها الداخلية، يجري إنتاجها داخل ما يحدث وسيحدث في حمص. عدد المهجرين داخل سوريا يبلغ اليوم مليوني مهجر، نصفهم من حمص وحدها. وانقسمت هجرة أهالي حمص على نحو مذهبي. فالمهجرون السنّة من أبناء المدينة قصدوا مناطق حماة وحلب، والعلويون تراجعوا باتجاه اللاذقية ودمشق.
لا يزال حتى اللحظة هناك إمكان لتجنّب تدمير اللحمة الوطنية السورية انطلاقاً من مدينة حمص التي تعتبر الأكثر اختلاطاً طائفياً من جميع مدن سوريا، بعد دمشق، وربما قبلها لناحية الميزات الاجتماعية والسياسية المهمة التي يرمز إليها اختلاطها. ويتوقف على الكيفية التي سيعالج بها العصيان الأمني داخلها تحديد مستقبل وحدة الأراضي السورية، ومستقبل إمكانية إعادة شد لحمتها الاجتماعية الوطنية.

موقع حمص في الهجوم الكبير

في متن تقرير صادر عن مركز أميركي قريب من البنتاغون حول سوريا، يركز التقرير على فكرة أساسية، وهي أنه تبعاً لنتائج «الهجوم الكبير» _ حسب تسميته _ الذي يشنه الجيش السوري منذ حوالى ثلاثة أسابيع، يتوقف ضمان بقاء الأراضي السورية موحدة أو العكس. وبحسب التقرير، فإن من شأن نجاح الهجوم في السيطرة على كل الأراضي السورية، أن يؤكد مركزية نظام الرئيس السوري بشار الأسد على كل البلد. أما إذا فشل، فإن الجيش السوري النظامي سيضطر إلى التراجع والاحتشاد في مناطق الساحل السوري ودمشق، بهدف حماية سلطة النظام في تلك المنطقة، وسيعني هذا أن سوريا ستدخل واقعياً مرحلة التقسيم إلى جزءين؛ جزء يسيطر عليه النظام، وجزء آخر تسيطر عليه أطياف المعارضة المسلحة، وهو باقي الأراضي السورية.
وعلى هذا، فإن معركة حمص ضمن استراتيجية الهجوم الكبير، لها هدفان: الأول ضمان السيطرة على المدينة وريفها، لأن ذلك يمنح الجيش «زمام مبادرة الهجوم»، بحيث ينطلق منها باتجاه المحافظات المتفلتة الأخرى، وبينها حماة، والمحافظات المتاخمة للحدود التركية والأردنية وغيرها. ولكن ضمن هذه الخطة، توجد اعتبارات على صلة بالتحسب للوضع الاستراتيجي للنظام في حال فشل الهجوم. ولذلك يخوض النظام معركة حمص وفق سلة أهداف: كخطوة أولى، السيطرة على خط حمص الواصل بين اللاذقية ودمشق. وكخطوة تالية، يجري التمهل بالحسم داخل المدينة، أخذاً في الاعتبار أن رمزية المدينة كمساحة للاختلاط المذهبي، تجعل من طريقة معالجة العصيان فيها محل مؤشر على إمكانية استمرار التعايش الطائفي في سوريا مستقبلاً من عدمه. ولهذا فإن التعامل مع حيّي الخالدية وأبو الدريب يجري حالياً بأسلوب «جزرة» التفاوض التي تقدمها وزارة المصالحة، و«العصا» التي يرفعها الجيش. وتجدر الملاحظة، في هذا السياق، أن النظرة الروسية تشترك في الجوهر مع النظرة الأميركية، لجهة أن معركة حمص ستحدد في أي منحى سياسي ستذهب المقاربة الدولية للأزمة السورية، وأي مضمون اجتماعي سيأخذه الصراع داخل سوريا. فالروس يشبّهون حمص بغروزني عاصمة الشيشان التي دست فيها الاستخبارات الأميركية، في بدايات تسعينيات القرن الماضي، مجموعات إسلامية متطرفة قامت بضرب خط الأنبوب الروسي الذي يأخذ النفط إلى شواطئ البحر الاسود، ما قاد الروس عام ١٩٩٤ إلى شن حملة عسكرية على المدينة بهدف تدميرها وتصفية المسلحين الإسلاميين فيها، وتهجير بيئتهم الشعبية الحاضنة، وتأمين طريق مرور النفط الاستراتيجي. طريق حمص الواصل بين اللاذقية ودمشق، هو شيء من معنى غروزني، ليس فقط لأن حمص هي خزان لمليونين ونصف مليون متر مكعب من الغاز، بل لأن السيطرة عليها، وطريقة هذه السيطرة، يمثّلان «ضمانة» لئلا يؤدي فشل الهجوم الكبير إلى إسقاط النظام، أو أن يؤدي نجاحه إلى إعادة لحمة الأرض والشعب السوري انطلاقاً منها.
ويعتقد النظام أن شكل الحسم الذي يجب اتباعه داخل المدينة تحدده نتائج الهجوم الكبير، فنجاحه سيقود مهجريها إلى العودة إليها، ما يحمي وحدة النسيج المذهبي والطائفي في سوريا، أما فشله فسيؤدي الى جعل «الديموغرافيا الحمصانية» المهاجرة لمناطق خارج قبضة النظام، تشكل مصدر جذب لمن تبقى من سنّة حمص داخل المدينة. وهذا يقود إلى نوع من الفرز المذهبي الديموغرافي الحاد في سوريا، سيكون له أثره البغيض على استمرار وحدتها.

الامتداد اللبناني

ضمن قضية حسم الوضع العسكري داخل حمص المدينة، يوجد اعتبار آخر مهم، قوامه أن الميدان الفعلي لمعركة مدينة حمص يتجاوز مساحتها العقارية، ويمتد على مساحة مئة كيلومتر مربع، من المدينة إلى منطقتي بساتينها والوعر، وصولاً إلى بحيرة حمص وامتداداتها داخل أراضي وادي خالد اللبنانية. وثمة ميل لدى الجيش النظامي لإحكام السيطرة على منافذ تهريب السلاح والأغذية للمسلحين في هذا الميدان الواسع، ثم بعد ذلك إدارة الظهر للتعامل مع حيّي الخالدية والدريب.
ضمن هذه الاعتبارات الآنفة جميعها، تأتي معركتا «القصير» و«تل كلخ» على الحدود مع لبنان، التي يكتفي الجيش السوري في هذه المرحلة بحصارهما لتعطيل قدرتهما على أن تكونا نقطتي تجميع السلاح المهرب من لبنان يجري منهما تنسيق توزيعه على المجموعات المسلحة المنتشرة في منطقة حمص.
ويعترف تقرير للـ«سي آي إيه»، بأن لبنان يعتبر من بين كل دول الجوار لسوريا أهم قاعدة خلفية لدعم المعارضة السورية المسلحة، بالسلاح والمؤن، وذلك بسبب قرب مناطقه الحدودية من قواعد المسلحين، سواءً في حمص أو في ريف دمشق، حيث إن أبعد نقطة داخل لبنان عن مواقع المسلحين السوريين في حمص لا تتجاوز ٣٠ كيلومتراً. ويتحدث عن أن مسالك تهريب السلاح من لبنان إلى حمص خاصةً وريف دمشق تمر بالسكك النشطة الآتية: خط من عرسال الى حمص عبر سعدنايل، خط زحلة _ مجدل عنجر _ وادي العرائش إلى ريف دمشق، خط بيروت باتجاه زحلة.
ويقول التقرير إنه يوجد حلقة ضيقة تدير عملية تهريب السلاح عبر هذه الخطوط إلى سوريا، من ضمنها مسؤول لبناني كبير، كانت الاستخبارات الأردنية سرّبت إليه خلال العام الماضي معلومات عن أن الاستخبارات السورية تُعدّ لتصفيته.

الحدود اللبنانية _ السورية

إن حسم معركة حمص _ المدينة المختلطة، مؤجل، في جزء من الأسباب الرئيسة، لما بعد إنهاء الوضع الداعم عسكرياً للمعارضة في القصير وتل كلخ وشمال لبنان. وعلى هذا، فمنذ وضع خطة الهجوم الكبير موضع التطبيق، أصبح للقتال في المناطق المحاذية للحدود السورية مع لبنان، ومن ضمنها بلدة القصير، مغزى استراتيجي، على صلة بتأمين خط اللاذقية _ دمشق. ولذلك جرى استبدال كتائب الهجانة السورية وحرس الحدود بقوات نظامية محترفة، وأعطيت إليها تعليمات مشددة بالرد الفوري على مصادر النيران والرد على الرصاصة المنطلقة من داخل الأراضي اللبنانية بكل أنواع الأسلحة. كذلك طلب منها تعقب المجموعات السورية المسلحة التي تقوم بأنشطة عسكرية، انطلاقاً من الأراضي اللبنانية إلى داخل هذه الأراضي.
قبل أيام زار وفد من أبناء عكار مرجعاً رسمياً كبيراً، وناشده أن يتدخل الجيش اللبناني لحماية أبناء القضاء. اشتكى الوفد من أن مجموعات من الجيش السوري الحر تدخل في الليل القرى وتطلق النار منها باتجاه الجنود السوريين وراء الحدود، فيردّ هؤلاء على نحو مفرط العنف. ويخشى عقلاء عكار من أن استمرار هذه الحال قد يؤدي إلى تهجير أبناء منطقتهم. وهم يخشون أنه في ظل ظروف الانقسام اللبناني، قد لا يجدون حاضناً شعبياً لبنانياً جامعاً لاستضافتهم. ومنذ حوالى شهر تقريباً، نقل الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري نصري خوري إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان اقتراحاً من القيادة السورية بإنشاء لجنة عسكرية سورية _ لبنانية مشتركة، تنسق عمليات وقف التهريب على الحدود، وتمنع استخدام الأراضي اللبنانية منطلقاً لتنفيذ هجمات ضد الجيش السوري. كانت قيادة الجيش قد نظرت آنذاك إلى هذا الاقتراح بإيجابية، ولفترة غير قصيرة اتخذت إجراءات لإنجاز تشكيلها، ولكن توقف هذا المسار. اليوم تعود الحياة إلى هذا الاقتراح، ويقر مجلس الوزراء نشر الجيش اللبناني على الحدود الشمالية. نائب وزيرة الخارجية الأميركية وليام بيرنز، خلال زيارته الأخيرة للبنان، امتدح سياسة النأي بالنفس، وشدد على مطلب الاستقرار، ورأى أن نشر الجيش يخدم هذا الهدف المطلوب دولياً. ولوحظ أن بيرنز لم يغص في تفاصيل الوضع اللبناني، خلافاً لأسلوب جيفري فيلتمان. فهو اكتفى كعادته برسم المعادلات المطلوبة، التي لخصها بعبارة: دعم الاستقرار.