شجر السرو الذي كان يلف المخيم لم يعد موجوداً، قرر صاحب البستان أن يقطع الشجر لترى الأرض بعضاً من الشمس. «أبو الدينين» و«أبو رجل مسلوخة»، خرافات ستي أُم ناصر التي كانت تُرعبنا بها لم تعد موجودة، قُطعت الأشجار، فاختفت كل الأشباح التي كانت تختبئ خلفها.
المخيم لا يشبه نفسه، لم تكتظ البيوت، إنما الناس قد رحلوا. بعكس كل المخيمات، هنا بالكاد ترى تجمعاً لخمسة شبّان، لا يوجد هنا من يجلس على كرسيه جانب الطريق ليعدّ الأرجيلة، لا أحد يتجاوز الثامنة عشرة ليتعارك مع أصدقائه على لعبة «بلياردو» لتضجّ بأصوات الغاضبين من غلطة كرة، ولا مقاهي يكثُر فيها الحالمون على فنجان قهوة وبعض من قصائد محمود درويش أو أغاني السيدة أُم كلثوم.
هُنا لا يحكم رصاص الابتهاج، فبالكاد يفرح الناس لشيء، وإن فرحوا فلا يوجد رصاص ليُطلق بالهواء. هُنا لا شيء يشبه المخيمات في شيء، إلا مستوصف الأنروا ومكتبان للتنظيمات. هُنا مخيم القاسمية، حيث يحكم «سماسرة التهريب».
لا يمكن التعرّف إليهم، فالوصول إليهم صعب وهم يعيشون خارج حدود المخيم ولكن متحكمون بحياة الشبّان فيه. تلتقي بأحدهم بعيداً عن عيون الناس أو إخبار السامعين، تجري الصفقة وتنتظر الموعد.
الشنطة عليها أن تنتظر في البيت، قميصان وعدد قليل من الغيارات الداخلية ضرورية، جواز السفر والهوية لا فائدة ولا قيمة لهما، الصفقة هي سفر الموت، «إنتَ وحظك يعني»، هذا ما يروّج له السماسرة، بمعنى أنك إذ لم تصل إلى أوروبا، فستعود إلى لبنان ربما محملاً في تابوت. هكذا، بكل وقاحة، لا شيء مضموناً! إليك الخُطة جملة من دون تفاصيل: تأتي السمسار بمبلغ لا يقل عن 10،000 دولار أميركي، يأخذ منك جزءاً من المبلغ من دون تحديد موعد، أما الوجهة فهي أوروبا، أين في أوروبا ليس مهماً ــ أوروبا واسعة والله يخليلنا الشينغل» يقصدون تأشيرة الشينغين التي تسمح بالدخول الى اي بلد اوروبي داخل بالمعاهدة. قد يأتي الاتصال في أية لحظة «ضب غراضك ولاقينا بالمحل الفُلاني»، نادراً ما يكون هناك وقت لوداع الأحبة أو حتى الاتصال بهم. ادفع ما تبقى من المبلغ وإلا «راحت عليك السفرة ــ الحلم»، وسيلة السفر، قارب صغير يسبح بك لتصل إلى أقرب نقطة من اليابسة ممكن الوصول إليها، وعند بلوغ الشاطئ «كل واحد بيروح بحال سبيله». طبعاً، لا أحد يُنكر قلب السمسار الحنون، فهو يُخبر الموتى الأحياء ما عليهم فعله: استسلام للشرطة، طلب محام من أصول عريبة أو على الأقل يتحدث اللغة العربية، ذرف دمعتين وتحمّل السجن لمدة لا تقل عن شهرين. من بعدها، تصبح كل أوروبا تحت سير أقدام الوافدين إليها، هذا طبعاً، إذا وصلوها أحياء!