لم ينم كثيرون من جمهور المقاومة الإسلامية منذ يومين. إذا غمضت عين أحدهم، رنّ هاتفه منبئاً بوصول رسالة، أو حاملاً صوت متصّل يبلغه آخر الأخبار عن معركة القصير. معركة يتابعون أخبارها مباشرة، عبر هواتفهم وصفحاتهم الفايسبوكية. وما كان يجري تداوله سراً خلال الشهر الفائت، انتشر أمس. تناقل الكثيرون صوراً مباشرة من الميدان، تبادلوا عبارات الانتصار، وزفّوا الشهداء. طلبوا الدعاء للمقاومين، والتبرّع بالدماء للجرحى.
أمام مستشفى الرسول الأعظم عند طريق المطار، كان الأهالي والأصدقاء بالعشرات ينتظرون خبراً عن أولادهم. هنا أم تتلقى خبر استشهاد ابنها، فتتولى بنفسها تهدئة روع الأب. وهناك شاب عرف باستشهاد صديقه، فأقسم على إكمال الطريق. المشهد لا يختلف في مراسم التشييع، التي يزفّ فيها حزب الله شهداءه بفخر واعتزاز.
مرّ وقت طويل لم يعش خلاله جمهور المقاومة هذه الحالة الوجدانية. ما حصل في اليومين الفائتين، أعاد الكثيرين ممن كبروا مع المقاومة الإسلامية، سنوات إلى الوراء. استعادوا الحروب التي خيضت عامي 1993 و1996، والمواجهات البطولية والعمليات النوعية التراكمية التي أوصلت إلى التحرير في العام 2000، والانتصار في العام 2006. وفي كلّ هذه المراحل، كانت بطولات المقاومين على الجبهات حكايات تروى، وسير أبطالها تؤرّخ.
لكن رغم كلّ ما قيل أعلاه، يبقى الوضع اليوم مختلفاً. قد لا يكون الوقت مناسباً لسرد تاريخ عدد من المقاومين الذين سقطوا في الأيام الأخيرة على أرض القصير السورية تلبية للواجب الجهادي كما يرد في بيانات نعيهم. يكفي القول مؤقتاً إنهم قادة، خاضوا معارك كثيرة في وجه العدو الاسرائيلي. حلموا بتحرير القدس، وجعلوا فلسطين قبلتهم. هكذا كبروا، وهكذا علّموا أولادهم. لكنهم عندما استشهدوا، كان ذلك على أرض عربية، في مواجهة شبان عرب ومسلمين مثلهم.
يصعب التصديق أن نهاية مماثلة كان يمكن أن تسطّر لهؤلاء الأبطال. عندما نطلب من أحد الشباب أن يستعيد تاريخ صديقه المقاوم، وكان قد تلقى خبر استشهاده للتوّ، يختنق صوته. الشريط الذي يستعرضه لحياة الشهيد على الجبهة، لا ينبئ بأن نهاية عشرين عاماً من المقاومة سيكون مكانها القصير. لكن الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة، لا يزعزع قناعة الشاب بأن المعركة التي يخوضها حزب الله اليوم «هي دفاع عن النفس وإن اتخذت صبغة هجومية». جملة تتكرّر على ألسنة كلّ من سألتهم «الأخبار»، من مناصري المقاومة وأهالي الشهداء، عن رأيهم في ما يحصل. لا أصوات اعتراضية، ولا نقمة ولا شكوى. بل دعاء ومشاركة في العزاء وإحياء مراسم التشييع من جهة، وسعادة بالنصر الذي يتحقق من خلال «تحرير القصير من الجماعات التكفيرية المسلّحة»، يقولون بثقة. بل إن البعض يستغرب السؤال عن رأيه في معركة «لا لبس حول مشروعيتها لمن يملك رؤية واضحة وتحليلاً استرتيجياً» تقول سناء، مناصرة لحزب الله.
المناصرون كانوا كثراً، وقد غلبت الحماسة بعضهم، فبادر إلى إنتاج رسالة للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله يتوجه فيها إلى المقاومين، وأخرى نسبت إلى المقاومين رداً عليه. في حين تبرّع آخرون بنشر أسماء قيل إنها لشهداء سقطوا في القصير، وتبيّن لاحقاً عدم دقتها.
هذا الانخراط في المعركة، افتراضياً، يؤكد حالة الالتفاف حول «حزب الله»، إذ لا يشعر كثيرون بالحاجة إلى تبرير انخراطه في الأزمة السورية. هؤلاء هم أولاً، أهالي البقاع، من الهرمل والنبي شيت وشعث، الذين يعرفون ماذا حصل في السنتين الفائتين في قرى القصير. يعدّدون الاعتداءات التي تعرّض لها الأهالي. يروي قريب الشهيد حسن فيصل شكر إن الأخير تأثر كثيراً بما تعرّض له صديقه في إحدى قرى ريف القصير. «دخلت الجماعات المسلّحة إلى بيته، وجرى الاعتداء على أفراد عائلته قبل قتلهم»، هذا عدا عن عشرات القصص المماثلة «التي لا يعرف الإعلام عنها شيئاً، نحن رأينا القتلى وداوينا الجرحى. من اقتحم بيوت هؤلاء سيقتحم بيوتنا. الآن عندما قرّر حزب الله أن يخلّصنا تذكروا وجودنا؟». يستطرد الرجل: «كنا نتمنى أن يكون سلاحنا موجهاً ضد العدو الاسرائيلي، فهذا واجبنا، لكنهم فرضوا هذه المعركة علينا».
أما في الجنوب فهناك أسف «لأن حزب الله دفع إلى مقاتلة أناس كان يفترض ان يكونوا معنا في مواجهة اسرائيل»، يقول شاب تلقي خبر استشهاد ابن عمه عبر الفايسبوك. يحكي بأسف، هو الذي يعرف قدرات قريبه المعروف بخبرته العسكرية الواسعة والمهمات الخاصة التي كان ينفذّها. هناك، في القرى التي حرّرها حزب الله من الاحتلال الاسرائيلي، يتابع الأهالي التطورات أولاً بأوّل. كثيرون منهم لاحظوا غياب شباب من المقاومة عن بلداتهم، فقدّروا أنهم سيكونون في سوريا، عند مقام السيدة زينب أو في القصير. يروي أحدهم ما شاهده بأمّ عينه عند المقام، قبل أن يقرّر حزب الله الدفاع عنه: «في مرة من المرات، علّقوا جثة طفل لا يتجاوز عمره العام عند الباب ليخيفوا الزوّار». لذلك، تعدّ مشاركة حزب الله «حرباً استباقية. في حال سيطرت جماعات جبهة النصرة والتكفيريين على سوريا، سيأتون إلى لبنان. هذا ما أعلنوه أكثر من مرة». يعزّز كلامهم ما يشاهدونه من ممارسات لجبهة النصرة: «كلنا تابعنا المجازر التي ترتكبها على التلفزيون مباشرة. هؤلاء قوم لا يتردّون في أكل لحوم البشر. هذا عدا عن خطابهم الديني المتطرّف الذي يكفّرنا ويحلّل دمنا» يقول أحدهم. في حين يسوق آخر سبباً آخر لعدم وجود حالة اعتراض على قرار حزب الله: «هناك الثقة بالمقاومة التي لم تخذلنا يوماً واحداً منذ انطلاقتها ... نحن نعرف عدداً من المقاومين الذين استشهدوا هناك ولا نشك لحظة أنهم قد يكونون مضلّلين أو أنهم مستعدين لإحراق تاريخهم المقاوم لاسرائيل في معركة لا يعتبرونها محقة».
كيف لا تكون المعركة محقة إذا كان هدفها حماية ظهر المقاومة؟ «هذه حرب استراتيجية»، يجزم ثالث. يذهب الأخير بعيداً في التحليل: «فلنفترض أن جبهة النصرة انتصرت في سوريا، ماذا سيفعل حلفاؤها في لبنان؟ ألن تشكل القصير طريقاً لمدّهم بالسلاح ومحاربتنا وذبحنا؟ ما يفعله حزب الله حماية للبنان ونأسف لأن كثيرين لا يقدّرون التضحية التي يدفعها المقاومون في سبيل ردّ الخطر القادم عن لبنان».
محدّثنا الأخير مطلّع على مجريات ما يحصل في القصير من خلال أصدقائه. استمع إلى رواياتهم، وبات على ثقة بأن عدد الشهداء الذي تجاوز العشرين يعدّ منطقياً لمعركة كبيرة بهذا الحجم. «من يملك الخلفية العسكرية سيعرف أن عدد الشهداء قد يرتفع أكثر وأعتقد أن قيادة المقاومة تعي هذا الأمر».
حتى المقرّبون من المقاومة باتوا يعون هذا الأمر، ويتقبّلونه. وكذلك تفعل أمهات الشهداء، كما في الفيلم الذي يجري تناقله لوالدة الشهيد عاهد سعادة التي تنتحب ولدها قائلة: «أنا بدي روح مطرحك، إذا ما ضلّ شباب أنا رايحة ... انشالله تكون متت عطشان متل الحسين وعلي الأكبر».
مشهد غير غريب على المقاومة الإسلامية وأهالي شهدائها.
لا تشكيك للحظة واحدة في عدالة القضية التي سقط من أجلها هؤلاء، مثلهم مثل رفاقهم الذين سقطوا في مواجهة اسرئيل وعملائها.
بل أكثر من ذلك، يقول أحدهم آسفاً: «شهداؤنا الذين سقطوا ضد اسرائيل يراهم الكثيرون ابطالاً وحاملي قضية، أما الذين يسقطون اليوم فلن ينصفهم إلا جمهورهم. إنهم الشهداء المظلومون». عبارة تردّ عليها مناصرة للمقاومة بالقول: «متى أُنصف شهداء حزب الله؟ فلنتذكّر كيف عوملوا في تموز 2006 لنتأكد أن المشككين هم أنفسهم».