الوقوف أوقات طويلة على الحواجز العسكرية السورية قبيل الحدود اللبنانية يعطي شعوراً بالكآبة للسوري المغادر إلى البلد الجار، آملاً بأن الخروج من الوطن قد يعطيه قليلاً من الراحة بعيداً عن أصوات الانفجارات والقذائف والرصاص المخيّم على الأرض الحزينة. أرتال السيارات الواقفة على الحدود تسمح بتقدير الوقت المهدور بنحو ساعتين من لحظة الوصول. وعليه، لا بد من النزول من السيارة وتركها للسائق الذي يحرّك سيارته ببطء وفق دوره، ريثما يختم الركّاب جوازاتهم في محاولة لاستغلال الوقت. دخول مركز الهجرة والجوازات اللبناني يمثّل أولى محطات إذلال السوريين خارج حدود أرضهم، إذ إن أرتال المسافرين تصل إلى خارج المبنى، ولا سبيل إلى تجاوز دور أي شخص يقف في رتله منذ ساعات. الحرّ الشديد داخل المبنى يلفح الوجوه الكالحة ويصبغها بقطرات العرق التي تختلط أحياناً بدموع قليلة تغالب أصحابها في الخروج. موظفو الأمن العام اللبناني يختلفون في طريقة تعاطيهم مع الضيوف السوريين، بحسب المزاج النفسي لكل منهم أو الانتماء السياسي أو الطائفي أحياناً. لكن التعب والتذمر من الازدحام هما الوصف الحقيقي لحال الموظفين. تخفّ حدّة التذمر إن كانت إحدى المسافرات المنتظرات جميلة بما يكفي لنسيان التعب، وخلق ابتسامة تشابه المعجزة على وجه الموظف المتعب الذي قد يسترسل في المزاح العالي للتعبير عن سعادته المفاجئة ببعض كلمات الغزل. وهكذا تمضي النساء خارجات من المبنى بلا أي تعليق. لقد حصلن على ختم الدخول إلى البلد «الآمن». قد تسمع إحداهن كلمات متفرقة من الباعة المتجولين تحمل صبغة الإهانة ضمنياً حول سبب قدومهن إلى هذه البلاد، في ظل الكثير من الأقاويل عن وضع الفتيات السوريات في دول الجوار، وما يتعرّضن له من استغلال جنسي ومادي.
عدد المتسولين يزداد بدءاً من الحدود وصولاً إلى قلب العاصمة اللبنانية. معظمهم سوريون، وآخرون يدّعون أنهم سوريون، بحسب الأشخاص المستهدفين لتصويب محاولات الحصول على المال تجاههم. في شارع الحمرا، قد تلاحقك طفلة صغيرة تبيع الورد. تبدو سورية من لهجتها، وبعد حديث قصير معها يمكن معرفة أصولها الآتية من حي قنينص في اللاذقية، حيث تعيش مع أمها وأشقائها فيما والدها يقاتل في ريف اللاذقية ضد الجيش السوري. وقد ترى أطفالاً سوريين يرتدون ملابس جديدة وأنيقة، لكن يحاولون التسول لسبب ما. قد يقول لك أحد السوريين المرافق في هذه الجولة: «تتطلب الحياة في لبنان، مقارنة بسوريا، دخلاً معيّناً يتناسب مع ارتفاع الأسعار». وفي الضاحية الجنوبية قد تلاحقك امرأة متسولة، معلنةً أنها سورية، فيما يبدو تقليدها للهجة فاشلاً، لكن استغلال المأساة السورية ألهم الجميع أساليب جديدة لكسب الرزق. وتنتشر حكاية الرجل الذي يحمل بطاقته الشخصية السورية، ويرفعها في كل مكان يتسول فيه، لتلاقي استياءً في الأوساط السورية على الأرض اللبنانية، حول مدى امتهان الهوية السورية في الخارج.
وللعمال السوريين في لبنان مشاكلهم التي لا تنتهي، والتي تتراوح خطورتها بحسب كل مرحلة سياسية تحكم العلاقات القائمة بين البلدين دون تحسن ملحوظ منذ عام 2005. يشكو العمال من اكتساح السوريين لسوق العمل اللبنانية، بسبب رخص أيديهم العاملة. فالسوري اليوم لا يطلب مالاً، بل يقول لرب العمل اللبناني: «أمّنلي مطرح نام فيه. ما بدي مصاري». الوضع المزري لهؤلاء العمّال فرض شروطه على ساحة العمل اللبنانية، في ظل استغلال الأمر من قبل أصحاب العمل، وتفضيل السوريين لعدم تطلّبهم، إثر هربهم من بلادهم بملابسهم التي يرتدونها. أما الخادمات السوريات، فأوضاعهن هي الأسوأ في ظل ما يتعرضن له من امتهان لكرامتهم واستغلال من قبل بعض أصحاب البيوت أو مكاتب تأجير الخادمات. يقول أسعد، شاب لبناني، «لا يمكن تصديق ما يجري. أصبحت الفتاة السورية تستغل من قبل أهلها المعدَمين، ومن قبل من تقابلهم هُنا. حتى في ما يخص الدعارة، ستجد امرأة سورية تطلب 10000 ليرة لبنانية، ما ينبئك بضعف الحال وبشاعته». سوق الدعارة، بحسب السوريين والفلسطينيين الذين نزحوا من الأراضي السورية الساخنة، قد ازدهر بدخول السوريات إليه، أمرٌ يبدو الحديث فيه مُهيناً، إلا أن السكوت عن حصوله، حُكماً، أشدّ إهانة. الجميع يعرف وضع السوريات على هذه الأرض «الآمنة»، لكن لا أحد يحاول أن يوصل صرخة إلى المعنيين بذلك، بدءاً من الجهات السورية المسؤولة عن هؤلاء، وصولاً إلى الحكومة اللبنانية التي تسكت عن استغلالهم سياسياً من قبل بعض الأطراف السياسية دون تأمين حد أدنى من الاهتمام بأوضاعهم، وليس انتهاءً بالمنظمات الإنسانية التي لا تعمل إلا وفق أجندات سياسية، بينما أحوال العائلات المهجّرة تزداد سوءاً.
وتتمثل الجهات السورية المسؤولة عن أحوال الرعايا في البلدان الأُخرى بالسفارة السورية. يتساءل الكثير من اللاجئين السوريين عن دور السفارة في تسيير أحوال رعاياها، فيما يرفض آخرون اللجوء إليها لكونها تمثّل النظام الذي يرفضون إثبات شرعيته أو طلب رعايته، بل يخشون أيضاً الاقتراب من «سفارته» على اعتبارات تقوم على الخوف بما أن بعض أسر اللاجئين تضم مطلوبين للسلطات السورية بتهمة حمل السلاح والقتال ضد الجيش السوري.
المغادرون السوريون العابرون للحدود اللبنانية باتجاه وطنهم الأم لن يسلموا من التعامل السلبي أيضاً في طريق العودة. فقد تدخل إلى مبنى المغادرة التابع للأمن العام اللبناني، حيث تواجهك مكاتب الموظفين المقابلة. إلى اليسار قليلاً، وعلى الكوّة الثالثة المقابلة، تقف الكثير من النسوة، بانتظار ختم جوازات سفرهن. قد ينهض الموظف فجأة لتناول طعام غدائه وترك المنتظرين لمصيرهم. وقد يعود إلى عمله في مزاج سيّئ، فيختم جواز السفر الممهور بختم الدولة السورية والمزين غلافه بالنسر والنجمتين، ثم يرميه في وجه المسافر الواقف أمامه، والذي سيسكت عن مثل هذا التصرف باعتباره يقف غريباً عاجزاً، بينما قد ترى امرأة تصيح خارجة من المبنى وهي تنظر إلى الخلف بحنق، وتقول بعصبية: «الله يرحمك يا حافظ الأسد». يرد عليها أحد المسافرين بسخرية: «إنه لبنان السيادة والاستقلال. وليس المحافظة الخامسة عشرة».