أزمات سياسية عديدة مرّت بين مصر وليبيا على مدى السنوات الماضية، كان المنسق السابق للعلاقات المصرية الليبية، أحمد قذاف الدم، يجيد، بالتواطؤ مع الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك حيناً والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حيناً آخر، العبور بها إلى برّ الأمن. أما اليوم، فقد تحول قذاف الدم، الذي أدار هذه العلاقات على مدى أكثر من 20 عاماً وبعد قرابة عامين من اطاحة مبارك والقذافي، إلى قربان لا بد من تقديمه على مذبح استعادة الهدوء في العلاقات بين البلدين، اذ لم توفر السلطات الليبية وسيلة ضغط إلا ومارستها على مصر لتسليم ابن عم القذافي. وهو ما تتجه مصر لتنفيذه بعد اعتقالها، أمس، قذاف الدم خلال تواجده برفقة كل من السفير الليبي السابق محمود ماريا ومحمد ابراهيم، وهو شقيق لمسؤول ليبي سابق بارز، تمهيداً لنزع فتيل التوتر في العلاقات بين البلدين. توتر ترجم خلال الأشهر الماضية عبر عدد من الأزمات، لم يخف وجودها رئيس الوزراء الليبي، علي زيدان، خلال زيارته قبل قرابة أسبوعين للقاهرة، والتي حذر فيه أيضاً أعوان القذافي في مصر من أي تحرك يضر بالسيادة الليبية.
أحدث هذه الأزمات ما يعرف بـ«أزمة الأقباط»، بعد اعتقال السلطات الليبية 55 مصرياً بتهمة التبشير، قبل أن تعمد إلى الإفراج عنهم في أعقاب وفاة أحدهم خلال الاحتجاز. كما لجأت السلطات الليبية إلى اغلاق منفذ مساعد الليبي أمام المسافرين والشاحنات المصرية، فضلاً عن اعادة فرض تأشيرة دخول على أبناء مرسى مطروح، بعدما كانوا مستثنين منها على مدى أكثر من عشر سنوات. وترافق ذلك مع ترحيل مئات المصريين من ليبيا. وهو ما جعل تسليم قذاف الدم في هذا التوقيت يبدو كأنه صفقة أرادت مصر ابرامها مع ليبيا لتجنب التداعيات السلبية لهذه الاجراءات ضد المصريين، التي عكست في جزء منها مدى استياء الليبيين من اصرار مصر على احتضان رموز القذافي لديها بالرغم من سقوط حسني مبارك.
المحلل المصري في الشؤون العربية، العزب الطيب الطاهر، اعتبر ان تسليم قذاف الدم لم يصل الى حد صفقة سياسية، لكنه وفقاً لما أكده لـ«الأخبار» يتعلق بالتأكيد بمصالح مصر مع النظام الجديد في ليبيا.
وفي السياق، أوضح أن أهم ورقة ضغط تملكها ليبيا في مواجهة مصر تتعلق بالعمالة المصرية لديها، على اعتبار أن تهرب السلطات المصرية في مسألة تسليم قذاف الدم أو غيره من رموز النظام السابق كان سيدفع السلطات الليبية للمسارعة في عملية طرد قسري لأعداد كبيرة من هذه العمالة. وهو ما يشكل عبئاً اضافياً على السلطات المصرية. الطاهر لم يستبعد أيضاً أن تكون السلطات الليبية لوحت بورقة سحب الاستثمارات الليبية الضخمة في مصر والتوقف عن ضخ استثمارات جديدة في المرحلة المقبلة، وهي خطوة كانت مصر في أمس الحاجة لتجنبها نتيجة وضعها الاقتصادي غير المستقر الذي دفعها مؤخراً للبحث عن شركاء اقتصاديين جدد واصلاح علاقاتها مع شركاء قدماء.
ولذلك، فإن جني مصر لثمار الانفراجة في العلاقات مع ليبيا في عدد من الملفات لن يتأخر في الظهور، وخصوصاً أن مصر حرصت على ايفاد كل من قائد سلاح الحدود في الجيش المصري أحمد إبراهيم ومبعوث خاص لرئيس الوزراء هشام قنديل، هو نائب مساعد وزير الخارجية يوسف أحمد الشرقاوي إلى طرابلس قبل ساعات من اعتقال قذاف الدم.
أول هذه الملفات، وفقاً للطاهر، المحافظة على معدلات وجود العمالة المصرية في ليبيا بل وفتح المزيد من الفرص أمامها، ولا سيما في ضوء تزايد الاحتياجات الليبية لها في مرحلة إعادة الاعمار التي تشهدها ليبيا حالياً. مزيد من التبعات الايجابية، تتمثل في تعزيز مصر لنفوذها لدى النخبة السياسية الحاكمة في ليبيا وتوفير إمكانية السيطرة على الجانب الليبي من الحدود، بما يحد من عمليات تهريب الأسلحة التي تتدفق على الداخل المصري، وهو ما بات يشكل خطراً ظهرت تجلياته في انتشار كثيف لأنواع متقدمة بل وثقيلة من السلاح.
السلطات الليبية تبدو من جهتها مستعدة لفتح صفحة جديدة من العلاقات مع الجانب المصري، على ما أكده لـ «الأخبار» أمس بدر الدين القالوشي، مدير مكتب الاعلام في الخارجية الليبية. والأخير لم يخف ارتياح السلطات الليبية وترحيبها بهذه الخطوة، واصفاً إياها بأنها تدل على عمق العلاقات الأخوية المصرية الليبية، وتشير بلا شك إلى أن هذه العلاقات متجهة نحو الأحسن.
لكن القالوشي شدد على عدم وجود صفقة سياسية وراء اعتقال قذاف الدم، الذي عمل لسنوات مبعوثاً شخصياً للقذافي، وذلك بعد بروز تساؤلات عن طبيعة الصفقة التي تم التوصل إليها بين السلطات الليبية والمصرية وعما اذا كانت مشابهة لتلك التي قيل إن ليبيا عقدتها مع موريتانيا، ما أتاح لها تسلم عبد الله السنوسي.
وفي حين وضع الأمر في سياق اجراء كان مطلوباً من مصر ولم تتخذه الأخيرة إلا بعد استيفاء الإجراءات القانونية، فإن الطاهر ينقل عن مصادر مطلعة قولها إن مصر طلبت ضمانات أمنية ومحاكمة عادلة لقذاف الدم قبل تسليمه، قبل أن يمهد تقديم هذه الضمانات إلى اعتقال قذاف الدم. وهو الاعتقال الذي جاء بعد اشتباكات بين القوات الأمنية وعناصر أمن قذاف الدم استمرت لساعات استسلم على اثرها وتم نقله إلى النيابة التي احتجزته أمس 30 يوماً على ذمة التحقيق في قضية اتهامه بالفساد المالي تمهيداً لتسليمه عبر الانتربول إلى السلطات الليبية وطي ملفه.