رام الله | «في المواجهات الدائرة في محيط معسكر ومعتقل عوفر لا يستدعي الشبان سيارات الإسعاف إلا في حالة الإصابة بالرصاص الحي، أما إصابات الرصاص المطاطي والاختناق بالغاز، فلا إمكانية للتعامل معها كإصابات»، يقول أحد مسعفي الهلال الأحمر، في إشارة الى حجم المواجهة المفتوحة مع قوات الاحتلال في رام الله والبلدة القديمة في الخليل وغيرها من مناطق الضفة الغربية المحتلة، وعنوانها الأهم خلال الأسابيع الماضية: الأسرى المضربون عن الطعام، قبل أن تتجسد في عنوان صارخ اسمه «الأسير الشهيد عرفات جرادات»، الذي قضى تحت التعذيب. المشاهد في عوفر والبلدة القديمة في الخليل تستحضر صورة الأسابيع الأولى من انتفاضة عام 2000، حيث يتجه المئات من الفلسطينيين إلى نقاط الاحتكاك مع جيش الاحتلال عند الحواجز والمعسكرات، ويخوضون مواجهات لا تهدأ معهم، عارين إلا من الحجارة والإطارات المشتعلة والزجاجات الحارقة. المشهد نفسه، لكن بظروف موضوعية أكثر تعقيداً، حيث يحاول أمن السلطة الفلسطينية منعهم من الوصول إلى نقاط المواجهة، فيما تحاول الفصائل الفلسطينية متأخرة اللحاق بالشارع الغاضب.
«أوسلو لم تكن إلا محاولة لإجبارنا على السير عدّة كيلومترات كي نصل إلى الاحتلال الذي يصلنا كل ليلة عبر مسلسل الاعتقالات الطويل»، يقول أحد المتظاهرين، في إشارة إلى حصر المواجهات في نقاط التماس مع جيش الاحتلال عند مداخل التجمعات السكنية في الضفة، بعدما كان الاحتلال حاضراً بجنوده وقواته داخل المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية.
وتبدو وتيرة المواجهات في مدينة الخليل الأعلى بين نقاط المواجهة في معسكر عوفر غرب رام الله وحاجز قلنديا جنوبها، وحاجز حوارة جنوب نابلس، وقرب مسجد بلال في بيت لحم، وحاجز الجلمة شمال جنين، فيما تشهد مناطق شارع الشهداء والشلالة في البلدة القديمة في الخليل المواجهات الأشرس، رغم اعتداءات أجهزة أمن السلطة على المتظاهرين، ومحاولة منعهم من الوصول إلى بؤر الاحتلال والمستوطنين. وجاء استشهاد الأسير جرادات من سعير قضاء الخليل، ليزيد من حدّة المواجهات المستمرة بسبب سقوط عدد من الجرحى في الفترة الماضية والاحتكاك المباشر مع الاحتلال.
ووسط الحديث، إما تحذيراً أو تبشيراً، حول الانتفاضة الثالثة، يبقى الأسرى هم المحرك الأهم للمواجهات والتصعيد الأمني، وتظل هذه القضية المفتوحة والمتفاقمة الحافز الأهم لنزول الفلسطينيين إلى الشارع بعد سنوات الانقسام الداخلي والصراع على السلطة أو معها. وتنطلق أصوات إسرائيلية وفلسطينية لتأكيد أنّ إبقاء هذا الملف مفتوحاً يعني أن المواجهة مستمرة ومتصاعدة، وأن السلام بعيد المنال.
وفي هذا الإطار، يأتي حديث مدير نادي الأسير قدورة فارس، حول «سعي الجانب الفلسطيني للتنسيق مع الشاباك الإسرائيلي لتطويق المواجهات ولكن دون ردّ، وسط تواري السياسيين الإسرائيليين في مرحلة تشكيل ائتلاف حكومي».
في المقابل، يحاول المتحدثون باسم الخارجية الإسرائيلية التمسك بمقولتهم إنّ الأسير الشهيد جرادات لم يتعرض للتعذيب، بل قضى إثر عارض صحي. وفي سبيل تطويق الأزمة، يقترح محللون سياسيون إسرائيليون الإفراج عن أسرى، وتحمل الصحف الإسرائيلية دعوات صريحة لتجنيب الإسرائيليين انتفاضة ثالثة، وإعادة الهدوء إلى الضفة الغربية. أما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو فيسارع الى الإفراج عن عائدات الضرائب، وإرسالها إلى خزينة السلطة، في محاولة لدفع السلطة لبذل جهد أكبر لتهدئة الشارع. لكن الشباب في نقاط المواجهات بعيدون كل البعد عن تصريحات معسكري السلام لدى الجانبين. بعيدون عن تصريحات مسؤولي السلطة حول توتير إسرائيل للأجواء قبل زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما المرتقبة. وبعيدون عن الموقف الرسمي للفصائل الفلسطينية التي هدّدت أذرعها العسكرية مراراً بعدم التهاون مع أي خطر يمسّ أسيراً في سجون الاحتلال، حيث تتردّد في التظاهرات شعارات تستنكر موقف السلطة والفصائل على حدٍّ سواء، وتدعو الفلسطينيين إلى المشاركة الفاعلة لإنقاذ الأسرى الذين باتوا وحيدين في المواجهة، ومن خلفهم عائلاتهم التي باتت، بعد استشهاد الأسير جرادات، في حالة قلق دائم على أبنائهم في السجون.
يترافق كل ذلك مع حملات اعتقالات يشنّها جيش الاحتلال ويقضي الأسرى بعدها فترات طويلة دون معرفة أي تفاصيل حول أماكن اعتقالهم أو التهم الموجهة إليهم، كما يُمنع في بعض الأحيان المحامون من زيارتهم. يُضاف إلى ذلك مواصلة الأسرى سامر العيساوي وأيمن الشروانة وجعفر عز الدين وطارق قعدان ويوسف شعبان إضرابهم عن الطعام.
في المواجهات المستمرة يعاد الاعتبار إلى المقاومة الشعبية كما مارسها الفلسطينيون في انتفاضتهم الأولى والثانية، بعد دفع السلطة باتجاه تحويلها إلى تظاهرات سليمة تأخذ طابعاً استعراضياً ولا تشكل تهديداً أمنياً واستنزافاً لجيش الاحتلال، ويتأكد دور طلاب الجامعات في قيادة التظاهرات ومنحها زخماً شعبياً. ومع كل هذا يُعاد الاعتبار إلى قضية الأسرى، باعتبارها قضية سياسية بامتياز، وإلى الأسرى كطليعة الحركة الوطنية الفلسطينية. ولا تخفى محاولة جيش الاحتلال تجنب تفاقم المواجهات عبر إبعادها عن الشوارع الرئيسة الواصلة بين المدن والسيطرة على التظاهرات بأقل الخسائر، وسط اقتناع عام مفاده أنّ انفجار الضفة الغربية خط أحمر في اعتبارات الأمن الإسرائيلية. ولا يزال حاضراً في أذهان قادة جيش الاحتلال، حسب المحللين، ما جرى خلال الحرب الأخيرة على غزة، حين شكل انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة الدافع الأهم للجنوح إلى التهدئة مع فصائل المقاومة في القطاع.