عمان | تظاهرة أردنية تضم، كالمتوقع، بقايا بضعة أحزاب يسارية وقومية تقليدية، وإلى جوارها حراكات مستحدثة وُلدت من رحمها وتحكمها الخلافات. ولا بأس من حضور متظاهرين يساريين وقوميين متقاعدين (تنظيمياً) أصيبوا بالحنين إلى الماضي. حرارة الغضب ضد خطايا النظام المتراكمة تحتمل مسيرة إخوانية أخرى في الجمعة الواحدة، تتحول إلى مهرجان خطابي لرموز الحركة الإسلامية يؤكدون أمام المايكروفونات ثوابت الجماعة، رغم تبدّلها الموسمي المستمر. كما يؤكدون قدرتها على الحشد الذي يرافقه تكذيب متبادل حول أعداد المشاركين بينها وبين الإعلام الرسمي.
لكن الرموز تغيب عمداً فور اندلاع هبة شعبية. وحينها يترك الإخوان بعض أنصارهم المتحمسين للشارع يهتفون كيفما شاؤوا، من دون ضوابط وسقوف، لكن مع انتهاء موجة الاحتجاج تتخلى الجماعة عنهم، وتقصيهم عن جسمهما التنظيمي.
شارع مفتوح على الاحتمالات كافةً، لكن إفلاس الحركات الشعبية جميعها يقوده إلى اتجاهين اثنين؛ الأول يقضي بالاحتكاك السريع مع رجال الأمن عبر اختيار ميادين وساحات عامة لا يتمكن المواطنون من الوصول إليها بسبب محاصرتها بقوات الدرك. والثاني يتمثل في النوم في «عسل» الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الذي يلجأ إليه الحراكيون لإظهار مواقفهم الصارخة تجاه القمع والفساد والبكاء على الشعب المقهور.
تطهُّر لغوي برع ممثلو الحراك الأردني في ممارسته طوال العامين الماضيين، متناسين أنهم فبركوا شعارات لا تمت إلى واقع الناس بصلة، وذهبوا إلى الاصطدام مع السلطة مرة بدعوى إسقاط الحكومة ومجلس النواب، ومرة ثانية مطالبين بسن قانون انتخابي «عصري» وتعديلات دستورية، لكنهم لم يجتمعوا على صيغة واحدة حولها حتى اللحظة، فضلاً عن وقوع آخرين بفخاخ المواطنة وحقوقها المنقوصة أو تثبيت الهوية الوطنية والتحذير من الأخطار المحدقة بها.
ومن دون سابق إنذار؛ لم يصمد الحراكيون في الدفاع عن رؤاهم المنفصمة عن الواقع، لتقودهم الجماهير لحظة خروجها إلى الشارع، مثلما حدث في هبة تشرين الأخيرة، ويهتفوا وراءها ضد رفع أسعار الطاقة، ويعودوا إلى بيوتهم مصدومين من انتكاس الجموع الغاضبة جراء القمع المفرط حيالها. ولم يتنبه حراكي واحد إلى أن شهيد الهبة الوحيد الشاب قيس العمري، جرى التصالح على دمه بوصفه ابن عشيرة لا عضواً في حراك، وقُدّم قاتله كابن عشيرة ـــ كذلك ـــ لا كدركيّ.
تفقد السلطة مزيداً من هيبتها حين تدير ظهرها عن محاكمة دركي فتح النار على متظاهر، ليعود مواطنوها عند أول احتجاج سكاناً ورعايا لا شعباً تجمعه الدولة وقانونها. وتخسر المعارضة لأنها عجزت عن تمثيل الشعب وارتضت لأبنائها القتْل مرتين على يد سلطته.
عجز لا يحول دون الرجوع إلى الغرف المغلقة، لا لمراجعة تجربة «تشرين» وأخطائها، إنما للوقوع في مزيد من الخلافات بين الحراكيين الذين انقسموا في مواقفهم حيال الانتخابات النيابية الأخيرة، وبذلك أصبحت المقاطعة أو المشاركة شاغلهم الوحيد.
ومرة أخرى، يستسلم سياسيون لحصانات متوهمة، فتتحول مقاطعة الانتخابات إلى غشاوة تعمي المنادين بها وتضفي قداسة على مواقفهم السابقة واللاحقة. وسط هذا الصخب، يبحث البعض عن تأسيس جبهة عريضة لليسار في مواجهة ثنائية (النظام/ الإخوان). ولم يدر في خلد هؤلاء أن يساريتهم باتت حاجزاً بينهم وبين الجماهير، فهم عاجزون عن تحديد مهمات المرحلة، فضلاً عن أن حاصل جمع تياراتهم المفتتة لا يبني جبهة، بل مزيجاً متناقضاً من المنظرين والحالمين بقيادة الشارع.
مغامرات أخرى تراود آخرين بالنزول إلى الشارع بعدما عثروا، فجأة، على «أسرار» الاحتجاج الشعبي ومفاتيحه، وبدأوا التخطيط لحملات علاقة عامة من خلال الإعلان عن لجان شعبية تنشر بيانات صحافية تبيّن أكاذيب الحكومة.
الأزمة تتجلى لدى الحراك الشعبي الأردني بعدم قدرته مرة واحدة على تغيير صفته «قائداً» لشارع لم يتحرك بعد، ويفرز قياداته الحقيقية، وفق رغبات وأماني الحراكيين على أقل تقدير.