حرّكت الولايات المتحدة مسار التفاوض بشأن وقف الحرب في غزة. وبعدما تسلّمت «حماس» قبل أيام مقترحات أميركية تتضمن أفكاراً حول البند المتعلق بوقف دائم للحرب والانسحاب من القطاع، أعلنت الحركة أمس أنها تبادلت الأفكار مع الوسيطين القطري والمصري. وعلمت «الأخبار» أن التطور الأبرز يتعلق بمقترحات أعدّها مدير المخابرات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، بالتنسيق مع قطر ومصر وتركيا، وأن الأفكار الأميركية كانت تحاكي مطلباً رئيسياً لـ«حماس»، بأن يصار إلى تضمين النص كلاماً واضحاً لا يحتمل التأويل حول أن المفاوضات بين المرحلتين الأولى والثانية سوف تتم مع ضمان استمرار وقف إطلاق النار، أو تثبيت الهدوء المستدام خلال كل وقت التفاوض في نهاية المرحلة الأولى. إضافة إلى فكرة أميركية تقول إن إسرائيل سوف تخلي معبر رفح بالاتفاق مع الجانب المصري على أن يكون هناك تفاهم على إدارة المعبر، لكن دون إلزام العدو بالانسحاب الكامل من محور فيلادلفيا.وما حصل خلال ساعات ما بعد ظهر أمس، هو أن الوسطاء سلّموا «أفكار» حماس للجانب الإسرائيلي. ومرة جديدة، بادر رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو إلى المناورة. وهو ما كشفت عنه وسائل إعلام العدو ليل أمس. حيث سُرّب خبر ونُسب إلى مصدر أمني إسرائيلي رفيع قال إن رد حماس يتضمن طلباً بالانسحاب من محور فلادلفيا قد يعقّد الأمر. وتبيّن لاحقاً أن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هو من كان خلف هذا الخبر. ولكنه عمد إلى إصدار تسريبات من مكتبه تتحدّث عن مناخات إيجابية، خصوصاً أن نتنياهو يريد إرضاء الأميركيين بالتجاوب مع المساعي، ولكنه لا يريد الصفقة، ويحاول تحميل الجيش والأجهزة الأمنية المسؤولية، علماً أن اجتماعاً سيُعقد اليوم بين نتنياهو وقادة الأجهزة المعنية بالمفاوضات لاتخاذ القرار المناسب.
ونقلت «القناة الـ12» الإسرائيلية، عن مصادر مطّلعة، أنه «لأول مرة، ردّ حماس يسمح بالتقدم وهناك أرضية للمفاوضات»، الأمر الذي تساوق مع ما نقلته صحيفة «إسرائيل اليوم» عن مصادر وصفت ردّ «حماس» بـ«الاقتراح الجيد»، وأنه «أفضل رد تقدمه الحركة حتى الآن، وهو العرض الذي يجعل الصفقة ممكنة».
وعلى وقع هذه التطورات، حذّرت «هيئة عائلات الأسرى» الإسرائيليين في غزة، الحكومة الإسرائيلية، من عرقلة صفقة التبادل مجدداً، متوجّهة إلى نتنياهو بالقول: «في حال لم تقبل الصفقة مع حماس، فإن الملايين سيخرجون إلى الشوارع». وأضافت أن «الحكومة أمام أكبر اختبار أخلاقي: هل ستستمر في التخلي عن الأسرى أم ستتحرك لإنقاذهم؟».
في هذه الأثناء، يستعد جيش الاحتلال لتخفيض قوّاته في غزة وتحديداً في رفح، إضافة إلى مناطق الشمال، وبعض مخيمات المنطقة الوسطى، وتلك التي تتمركز عند الجدار الفاصل مع المستوطنات، علماً أن الجيش يتكون من سبع فرق، أربع منها تشارك في الحرب جنوباً، وثلاث وُضعت في الشمال لمواجهة التصعيد المستمر مقابل «حزب الله». وأتى قرار التخفيض بعدما أعطى المستوى السياسي الضوء الأخضر للجيش للانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، والتي تشمل عمليات اقتحام خاطفة ومحدودة، تعرف باسم «الغزوات الموضعية»، وتقوم على معلومات استخبارية مكثّفة، مقابل سحب القوات من المدن والأحياء داخل القطاع.
يعاني الجيش نقصاً في العديد، نتيجة خسائر أطول حرب منذ النكبة


ورغم أن هذه المرحلة هي جزء من خطة الحرب، وتبدو وكأنها امتداد للمرحلة الثانية، فإن توقيت الإعلان عن قرب الانتقال إليها يثير الكثير من علامات الاستفهام، خصوصاً في ظل ما كشفته صحيفة «نيويورك تايمز» في تقرير وقّعه الصحافي الاستخباري الإسرائيلي الشهير، رونين بيرغمان، المعروف بمصادره الوثيقة بـ«مجتمع المخابرات»، من أن قادة هيئة الأركان العامة للجيش وصلوا إلى قناعة بأن الحرب بصورتها الحالية تعني حرباً أبدية، وأنه من الأفضل لإسرائيل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وإن أبقى ذلك «حماس» في القطاع، ولو «مؤقتاً». وتولدت هذه القناعة في ظل رفض رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، تقديم صيغة واضحة بشأن «اليوم التالي»، فيما القوات العسكرية تعاني تآكلاً جسدياً ونفسياً، وتبدو مستنزفة، ليس وفقاً لمصادر الصحيفة الأميركية فحسب، بل أيضاً بحسب عشرات التقارير الإسرائيلية ومقابلات مع جنود وضباط نظاميين وآخرين احتياطيين.
كذلك، يعاني الجيش نقصاً في العديد، نتيجة الخسائر التي لحقت به في ظل أطول حرب يخوضها منذ النكبة، والتي لا تقتصر على القوى البشرية، التي بات يجري، وفقاً لمقابلات أجراها موقع «واينت» مع ضباط كبار في الاحتياط، الاقتصاد فيها، عبر الطلب من الضباط الخدمة أسبوعاً ثم التعطيل آخر، حتى يتمكنوا من الاحتفاظ بنوع من الروتين الحيوي وعدم التغيّب عن وظائفهم وعائلاتهم. كما جرى أيضاً تفعيل «اقتصاد الذخيرة»، في ظل نقص في العتاد والذخائر؛ إذ وفقاً لـ«نيويورك تايمز»، يعاني الجيش «إلى حدِّ أن جزءاً من دباباته في غزة لا يزوّد بكل ما يقدر على حمله من قذائف نتيجة النقص الحاصل».
وبمعزل عن التوقيت، الذي رُبط أيضاً بالحاجة إلى نقل قوات من الجنوب إلى الشمال خشية تزايد احتمالات اندلاع حرب واسعة، فإن المعضلة الأساسية للجيش الإسرائيلي، هي أنه جيش بُني طوال العقود القليلة الماضية، وخصوصاً خلال مدة تولي رؤساء الأركان الخمسة السابقين قيادته، باعتباره جيشاً صغيراً و«فتّاكاً»، أُعدّ لخوض حروب قصيرة، وبالتالي فهو ليس مستعداً لا لحرب متعددة الجبهات، ولا لحرب طويلة من هذا النوع. لا بل وفقاً لجنرالات سابقين وحاليين، فقد اضطر الجيش، مرات عدّة، إلى سحب تشكيلاته لإراحتها، لأنه لا يوجد عدد كافٍ من القوات لاستبدالها بعضها ببعض، وهو ما يمثل المعضلة الأساسية التي تعترض طريق إقامة حكم عسكري في القطاع، حيث يحتاج ذلك إلى أربع فرق على الأقل.
إزاء ذلك، فإن السؤال المركزي وفقاً للمحلل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، هو: «كيف يمكن تغليف هذه الخطوة (الانتقال إلى المرحلة الثالثة) بسردية تقنع الجمهور بأن الحكومة والجيش حققا جزءاً كبيراً من أهداف الحرب، رغم أن حماس لم تُهزَم في المطلق، وما زالت تحتفظ بـ120 مختطفاً». ووفقاً لما تكشّف، فإنه في المرحلة المقبلة، سيبقي الجيش قواته في ممرَّي «نتساريم» الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، و«فيلادلفيا» على الحدود المصرية، فيما من غير الواضح، حتى الآن، وفقاً لهرئيل، أي قسم من «فيلادلفيا تجب مواصلة السيطرة عليه»؛ إذ «يبدو أنه لن يجري الانسحاب من معبر رفح لأنه من الصعب التوصل إلى اتفاق مع مصر». وفي حين نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تقديرات تفيد بأن الجيش عثر على 40 نفقاً محفوراً تحت الحدود، وكشف عن نصفها، شكك المحلل في تلك التقديرات، لأنه «في الحقيقة، الاستخبارات لا تعرف ما هو عدد الأنفاق، وعدد الأنفاق التي جرى كشفها بدقة»، بحسبه.
ورغم أن «حماس» تبدو وكأنها قد تكيّفت مع الحرب؛ حيث تفيد تقارير أمنية إسرائيلية عدّة بأنها تعيد بناء صفوفها من جديد، عبر حتّى تجنيد عناصر شابة جديدة لتحل مكان أولئك الذين جُرحوا أو استشهدوا، وتثبت في بعض المناطق التي انسحب منها الجيش سابقاً أنها لا تزال تسيطر عليها، اعتبر هرئيل أن الرسالة التي يريد وزير الأمن، يوآف غالانت، ورئيس الأركان، هرتسي هليفي، إرسالها إلى الحكومة، هي أن «الهجوم الواسع النطاق على رفح نجح في تفكيك الذراع العسكرية لحماس، بشكلها المعروف»؛ إذ رغم أنها لا تزال ناشطة، «ولكنها تقوم بذلك ضمن إطار جديد مكون من مجموعات وحرب عصابات صغيرة، قدرتها على إيقاع الأضرار ضئيلة جداً، لكونها تفتقر إلى هرمية القيادة والتحكُّم».
وعلى هذا الأساس، فإن المرحلة المقبلة، وفقاً لهرئيل، ستتطلب مواصلة محاربة الحركة على طريقة «جز العشب» التي تتبعها إسرائيل في الضفة الغربية؛ حيث ستشن خلال المرحلة الثالثة هجمات متكررة على «الأهداف المتبقية»، بغية اعتقال مشتبهين، ونقلهم إلى «الشاباك» للتحقيق معهم. ومع ذلك، فإن «المشكلة أن هذا الأسلوب يستبطن رسالة معقدة من الصعب على الجمهور استيعابها»، خصوصاً عند مقارنتها بالأهداف غير الواقعية التي حددها المستوى السياسي بداية الحرب، ووعود نتنياهو بأن إسرائيل «تقف على بُعد خطوة من النصر المطلق».