يتواصَل الاهتمام الرسمي والشعبي بأخبار محاولات التقريب بين تركيا وسوريا، بوساطة روسية وعراقية وإيرانية، يبدو أنها فاجأت المعنيين والمتابعين. وهي محاولاتٌ واكبتها أسئلة حول احتمالات نجاحها، والسبب الذي يدفع بها الآن إلى الواجهة، وما إذا كانت الظروف المتغيّرة في المنطقة كافية لتشكيل زخم يؤدي إلى مصالحة جدّية بين البلدَين، أم إن ما يحدث مجرّد زوبعة في فنجان، وتكرار لـ«فيلم تركي» عشيّة قمّة «حلف شمال الأطلسي» المزمع انعقادها في واشنطن، في التاسع من تموز الجاري؟قد لا تكون لأحداث قيصري، في وسط تركيا، علاقة مباشرة بمحاولات المصالحة الجارية، لكن ما حدث يمثّل أحد مظاهر الأزمة بين البلدَين، والتي يأتي في مقدّمتها ملف اللاجئين السوريين المقدّر عددهم، رسميّاً، بأربعة ملايين ونصف مليون لاجئ، علماً أن الرقم أعلى من ذلك. وبدأت الأحداث في مدينة قيصري، مع توارد الأنباء حول اعتداء أحد السوريين على فتاة تركية، والتي سرعان ما انتشرت، فقامت مجموعات تركية بمهاجمة محالّ ومنازل السوريين في أنحاء المدينة وتخريبها، وحتى إطلاق النار عليها. وبعدها، انتقلت الزوبعة إلى مناطق الاحتلال التركي في سوريا، من مِثل الباب وأعزاز والراعي، حيث هاجم محتجّون من المعارضة السورية مراكز حدودية في الباب، وأنزلوا العلم التركي ومزّقوه، ورفعوا بدلاً منه علم الانتداب الفرنسي ذي الثلاث نجوم، مطلقين النار على شاحنات نقل خارجي تركية، لإجبارها على العودة إلى تركيا. وتطوّر التوتّر إلى اشتباكات مسلّحة بين السوريين والجيش التركي في هذه المناطق وغيرها، امتدّت إلى عفرين وإدلب والمعابر الحدودية بين تركيا وسوريا، فيما تدحرجت التطوّرات في الداخل التركي احتجاجاً على إنزال وتمزيق الأعلام التركية في الداخل السوري، فخرجت احتجاجات في مدن عديدة، مثل الريحانية وأضنة وأورفه وبورصه وغازي عينتاب. ووفقاً لصحيفة «غازيتيه دوار»، حمل المحتجون الأتراك أعلام بلدهم، وأطلقوا شعارات: «لا نريد اللاجئين» و«تركيا تركية وستبقى تركية» و«كم هو سعيد مَن يقول أنا تركي». وإذ وصفت الصحيفة، التعرُّض لمحالّ ومنازل السوريين وإحراق سياراتهم، بأنه «عنصري»، فهي رأت أن «ما يحدث هو تعبير عن رفض ما يُشاع عن احتمال اقتراب مصالحة بين أنقرة ودمشق، ورفض المعارضة السورية هذه المساعي لأنها تعتقد أنها ستكون ضحيتها الأولى».
أوزيل: ليس هناك سوى طريق واحد، وهو أن يجلس إردوغان مع الأسد ليحقّقا السلام


ودخلت الخارجية التركية على الخطّ، بإصدارها بياناً اعتبرت فيه الأحداث في الداخل السوري (المحتلّ) «خاطئة، ونتيجة عمليات تحريض مختلفة». ولفتت إلى أن «جهود تركيا لترييح الأوضاع ومواجهة التحريض لن تتوقف»، فيما اتهم الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، المعارضة التركية بـ«التحريض على الأحداث بخطابها السامّ المعادي للاجئين». وسرعان ما ردّ زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، على رئيس الجمهورية، شانّاً هجوماً لاذعاً وواسعاً عليه، إذ قال: «إردوغان نفسه يقول إنه المسؤول عن كل شيء. وهو موجود في السلطة، وبالتالي هو المسؤول عمّا يحدث»، مشيراً إلى أن «بعض خطابات زعماء المعارضة قد تكون قاسية، لكنك أنت الموجود في السلطة. وقد أورثك مؤسّس الجمهورية ثلاث وصايا: أن لا تتدخّل في الشؤون الداخلية لجارك، وأن تحترم وحدة أراضي جارك، وأن لا يكون مخاطبك لدى جارك عناصر خارج الدولة». وتابع أوزيل: «إنك اعتبرت الجيش السوري الحرّ بأنه أشبه بالقوى الوطنية التي خاضت حرب التحرير الشعبية بين عامَي 1919 و1922. وجلبت المسلّحين لتدرّبهم وتسلّحهم وتموّلهم وترسلهم إلى القتال. ألا يُعدّ هذا تدخُّلاً في الشؤون الداخلية للجار؟ وقلتَ إنك ستدخل سوريا وتكون بعد ثلاث ساعات في دمشق وتصلّي في الجامع الأموي، أليس هذا انتهاكاً لوحدة أراضي الجار وحقوق سيادته؟». وأضاف: «لو لم تكن تحرّض على الحرب الداخلية في سوريا، هل كان ليكون عندنا هذا العدد من اللاجئين؟وبدلاً من اللقاء مع الأسد والتباحث معه، قمت بصبّ الزيت على النار وتجاهلت بالكامل وجود السلطة في سوريا. ليس هناك سوى طريق واحد، وهو أن تجلس مع الأسد لتحقّقوا السلام. هكذا بكل بساطة. وبذلك تُحلّ مشكلة اللاجئين».
وفي صحيفة «جمهورييات»، لفت محمد علي غولر إلى أن «جزءاً من الجمهور لم يعلّق أهمية كبيرة على رسالة إردوغان بخصوص الاجتماع المحتمل مع الأسد، لأن رسائل مماثلة متبادلة كانت موجودة قبل انتخابات أيار 2023 حول مشكلة اللاجئين، حتى إنه تم اتّخاذ إجراءات على المستوى الوزاري. لكن عندما انتهت الانتخابات، انتهت رسائل التطبيع أيضاً». واستدرك غولر بأن «رسالة إردوغان هذه المرّة لا تنبع من حاجة سياسية محلّية بحتة، بل من بعض التطوّرات الإقليمية، لأنه قبل يوم واحد منها، أدلى الأسد ببيان مهمّ، أشار فيه إلى ضرورة أن تتخذ أنقرة خطوات». وعدّد غولر ثلاثة عوامل إقليمية (قد تكون) حاكمة لتحريك مسار المصالحة الآن:
1- ممّا لا شكّ فيه أنّ سعي «حزب الاتحاد الديموقراطي» (PYD) الذي ترعاه الولايات المتحدة، إلى إجراء انتخابات بهدف شرعنة وجوده، يفرض التعاون بين الأطراف، فيما تركيز رسالة الأسد على «استعادة سيادته على كامل أراضي البلاد» مهمّ.
2- قرّرت بعض دول المنطقة إخراج الجنود الأميركيين وفرض ذلك على بلادهم، بعدما تمكّنت بغداد من جلب واشنطن إلى طاولة المفاوضات. ومع اضطرارها إلى الانسحاب من العراق، فإن فرص الولايات المتحدة في الصمود في سوريا ضئيلة.
3- شدّد وزير الخارجية، حاقان فيدان، خلال لقاءاته الأخيرة في الصين، عن تكامل مشروع «طريق التنمية»، الذي يتمحور حول تركيا والعراق - مع إمكانية شموله جيرانهما أيضاً - وسيربط الخليج بأوروبا، مع «مبادرة الحزام والطريق»، علماً أن تنفيذ هذا المشروع يعتمد على سلامة الطريق. وفي هذا السياق، بدأت كل من أنقرة وبغداد وطهران ودمشق التعاون بشكل ثنائي وثلاثي ضدّ الإرهاب الذي ترعاه واشنطن، وهو ما يندرج في إطاره إعلان محمد السعيدي، قائد قوات الحدود في وزارة الداخلية العراقية، وضع خطّة مكونة من مرحلتَين مع أنقرة، وست مراحل مع طهران، لأمن حدود تركيا وإيران.
وأنهى غولر مقالته بالقول: «باختصار، كما قالت موسكو: «الظروف أكثر ملاءمة من أيّ وقت مضى»، والتطوّرات الإقليمية التي ذكرناها أعلاه تفرض التطبيع بين أنقرة ودمشق. والقضية الآن هي ما إذا كان إردوغان سيستخدم مسألة المصالحة الآن في مفاوضاته الجديدة مع الأطلسي. ومع ذلك، دعونا نؤكد: إذا لم يستغلّ إردوغان هذه الفرصة الآن، فسوف يؤدي ذلك إلى تسريع وتيرة تراجع حزبه وحكومته».