لم تكد الاتهامات السودانية للإمارات بتأجيج الصراع في السودان، تنتهي حتى أثيرت موجة استنكار إماراتية، مصحوبة بإعلانات لافتة عن ضخّ منح ومساعدات لهيئات الأمم المتحدة المعنية بالأزمة الإنسانية في هذا البلد، كان آخرها تقديم أبو ظبي حزمة مساعدات بقيمة 10 ملايين دولار مقسمة على دفعتين. ويأتي ذلك فيما تُظهر وثائق حصلت «الأخبار» على نسخة منها، ومن بينها خطاب اتهام الخرطوم لأبو ظبي أمام مجلس الأمن (10 حزيران)، وتقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة الأخير في خصوص السودان، عن عمق الأزمة بين البلدَين.
قراءة في حيثيات الاتهامات السودانية لأبو ظبي
استهلّ مندوب السودان لدى الأمم المتحدة، الحارث إدريس الحارث، خطابه بلفت نظر الدول الأعضاء إلى «معلومات خطيرة» في خصوص ما سماها «حرب العدوان الدائرة في السودان»، منوهاً إلى أن الخطاب يُعدّ استكمالاً لمراسلات سودانية سابقة إلى مجلس الأمن «حول دعم الإمارات العربية المتحدة لقوات الدعم السريع»، والتي وصفها بـ«ميليشيات الإبادة»، مرفقاً كلامه بصور لبعض الأسلحة والمعدات العسكرية التي قال الجيش السوداني إنه استولى عليها خلال معارك في الخرطوم وأم درمان. ولفت الحارث إلى أن الصور المشار إليها تؤكد أن تلك الأسلحة بيعت سلفاً للجيش الإماراتي الذي سلّمها بدوره إلى قوات «الدعم».
وشملت قائمة المضبوطات «إماراتية الأصل»، بحسب الخطاب، مدرعة «نمر 2» (ماركة فورد)، ومسيّرة صربية، و«دانات» مسيّرات 120 مم TB، و«دانات» مدافع 120 مم TB (مصنعة لمصلحة القوات المسلحة الإماراتية)، و6 أجهزة اتصال لاسلكية (تصنيع شركات ألمانية، وتركية ويابانية) صُنعت خصيصاً لـ«مؤسسة الإمارات للاتصالات»، وصاروخ «تاو» (أميركي الصنع). كما تضمّنت عدداً من المعدات والأسلحة الحديثة الصنع من تشاد واليابان (عربة «تاتشر» قتالية مصنعة طبقاً للمواصفات الخليجية)، وأستراليا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة.
والظاهر أنه أريد من تلك المعطيات، تظهير تعميق الإمارات تدخلها في الحرب السودانية، أخذاً في الحسبان أن المواقع التي استردّها الجيش في الخرطوم وأم درمان لم تكن في الأساس (على الأقل حتى مطلع عام 2023) مواقع تمركز تقليدي لقوات «الدعم» القريبة بطبيعة الحال من خطوط إمداد الإمارات لها بالسلاح، من تشاد وليبيا المجاورتَين لمناطق نفوذها التقليدية. وفي مقابل ذلك، كرّر مسؤولون إماراتيون الحديث عن قيام سلطات الخرطوم باتهام بلادهم، للهروب من مسؤولياتها في خوض محادثات السلام في جدة.
على أن ما عُرض في مجلس الأمن ليس يتيماً؛ إذ إن بعض الجهات البحثية الاستقصائية مثل «Yale Humanitarian Research Lab» أفادت (15 الجاري) برصد تحليق طائرات إماراتية فوق المناطق الخاضعة لسيطرة «الدعم السريع» في دارفور، قبيل منتصف حزيران، في ما اعتُبر «دليلاً آخر على تقديم الإمارات أسلحة وذخيرة لقوات الدعم لاستخدامها في معركة الفاشر». كما تم التأكد من تحليق طائرة إماراتية من طراز «Ilyushin (IL-76)» على بعد 1.7 كيلومتر فقط من الفاشر، بحسب صور فضائية مثبتة في 11 حزيران الجاري، في تكرار لحادثة شهيرة رصدتها لجنة خبراء الأمم المتحدة حول السودان، في كانون الثاني الماضي، تخللها تحليق متكرّر لطائرات شحن إماراتية فوق مناطق تابعة لـ«الدعم».

تقرير لجنة الخبراء الأممية: الجيش مذنب أيضاً
اختتمت لجنة خبراء السودان في الأمم المتحدة نقاشاتها حول تقريرها ربع السنوي الأول عن السودان، والذي استغرقت مداولاته وصياغته نحو 13 أسبوعاً. وكشفت ديباجة التقرير، المصنف «بالغ السرّية»، عن اعتماد الفريق على مقابلات هاتفية مع معنيين من السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومصر والإمارات وإثيوبيا وكينيا وأوغندا، مع مواصلة مراقبته وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي السودانية والإقليمية، والترتيب لزيارات ميدانية إلى إثيوبيا وكينيا وأوغندا والإمارات.
ولفت التقرير إلى أن استيلاء «الدعم» على ود مدني، في 19 كانون الأول الماضي، كانت له نتائج كبيرة على الصراع في الفاشر وولاية شمال دارفور، إذ وفر هذا الانتصار «قاعدة لوجيستية وعملياتية» جديدة لتلك القوات (في إشارة إلى خطوط الإمداد من تشاد وليبيا، حيث تتمتع الإمارات في الأولى وفي شرق الثانية بنفوذ واضح ومتصاعد)، وأدى إلى إضعاف الوضع الإستراتيجي للجيش السوداني الذي عمد - بحسب التقرير - إلى تعويض خسارته في ولاية الجزيرة (كانون الأول 2023) بتعزيز وجوده في الفاشر (ذات الأهمية السياسية والعسكرية). وتمركزت قواته (التي قدّرها التقرير بحوالى 8 - 15 ألف جندي) في جامعة الفاشر، فيما نجحت «حركة تحرير السودان/ مني مناوي» (حاكم إقليم دارفور) في حشد قوات من المنطقة الممتدّة في جنوب ليبيا وشمال دافور (في المدة بين 9 و11 أيار) لتعزيز خطوط مواجهتها قرب الفاشر. كذلك، أشار التقرير إلى التحوّل الحالي في هذه الأخيرة، و«الذي بدأ في 11 نيسان، بإعلان القوات المشتركة الدارفورية عدم بقائها على الحياد والتحرّك بقوّة لمواجهة الدعم السريع، التي بادرت بدورها إلى الاستيلاء على مدينة ميليت الإستراتيجية في 14 نيسان، الأمر الذي لم يثنِ قادة القوات المشتركة (خلال اجتماع مهمّ عقدوه في جبل البركل، نهاية نيسان) عن تجديد التزامها بالتحرّك المشترك، وتعزيز التنسيق في ما بينها لمواجهة الدعم».
وفيما أرجع التقرير الأزمة الإنسانية وموجات اللاجئين، إلى الهجمات المختلفة التي «تقوم بها الأطراف المتصارعة»، لفت إلى قطْع قوات «الدعم السريع» طريق الإغاثة الوحيد لسكان شمال دارفور (من معبر تينا Tina)، بعد استيلائها على ميليت. ويضاف إلى ما تقدّم، ما رصده التقرير من إعاقة الجيش وصول مساعدات إنسانية إلى مناطق سيطرة «الدعم»، والعقبات الإدارية التي يفرضها في بورتسودان. وفي ما يخصّ تمويل الجماعات المسلحة (في إشارة ضمنية إلى «الدعم»)، قال الفريق إن مراقبته اللصيقة لتمويل تلك الجماعات لأغراض رئيسية، رتّبها على النحو الآتي: تمويل من أجل استدامة الصراع؛ تقديم الفاعلين الخارجيين معدات نقل/ عربات لمجموعات مختلفة لدعم حركتها لمسافات بعيدة؛ تقديم تدريب أو دعم لوجيستي آخر من قِبَل فاعلين خارجيين من أجل التصعيد الحالي في الصراع؛ التمويل الانتهازي وآليات الدعم بما في ذلك الأنشطة الإجرامية العابرة للحدود، مثل الابتزاز أو تهريب البشر.