في الثامن من نيسان/ أبريل الماضي، أصدر ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، مرسوماً ملكياً بـ«العفو» عن أكثر من 1500 سجين، حوالى نصفهم من المعتقلين السياسيين، في خطوة هي الأكبر من نوعها منذ العفو العام الذي صدر عام 2001. وكان قد اعتُقل قسم كبير من هؤلاء على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات التي طالبت بالتحول الديموقراطي في الرابع عشر من شباط من عام 2011 إبان ما سمي «الربيع العربي»، ليخرجوا قبل حوالى شهرَين إلى الحرية، من دون أن تفارقهم معاناتهم.يقول محمد (اسم مستعار)، الذي دخل السجن في عمر الثامنة والعشرين وخرج منه أربعينياً، في حديثه إلى «الأخبار»: «لقد أعادوا إليّ حريتي لكن من يُعيد إليّ أجمل سنوات عمري وذكرياتي مع أطفالي الذين اشتد عودهم بعيداً عني؟». ويضيف: «حسرة كبيرة تختلجني وأنا أراقب ملامح ابني الذي تركته رضيعاً، لأجده اليوم شاباً يشبهني إلى حدّ كبير، وأستمع إلى حديثه عن أفكاره ومعتقداته التي تشكلت بعيداً عني»، مستذكراً «الليالي الطويلة التي انهمرت فيها دموعه الساخنة، وقد استعر الشوق في قلبه إلى والدته التي توفيت وهي تنتظر عناقه». على أن الآلام لا تقتصر على ذلك فقط، بل تصاحبها عوارض أخرى من جراء سنوات من التعذيب وسوء المعاملة؛ وفي هذا الإطار، يتحدث محمد عن «نوبات هلع متكررة في منتصف الليل، وعدم القدرة على المكوث مدة طويلة في مكان مزدحم بالناس»، فضلاً عن «الكوابيس التي لا تفارق لياليه، والتي يرى فيها نفسه مقيداً وهو يُساق إلى السجن مجدداً إثر مداهمة ليلية لمنزله».
أما حامد (اسم مستعار أيضاً)، ورغم مرور شهرين على إطلاق سراحه، فلا يزال يجد صعوبة في التعامل مع الناس وفهم سلوكياتهم التي يرى أنها «تغيرت كثيراً مع كل المتغيرات الطارئة على المجتمع خلال العقد الفائت». ويضيف، في حديثه إلى «الأخبار»: «أشعر برغبة في الانعزال، لكنني أقاوم هذه الرغبة وأُكثر من جلساتي مع الناس وأحاول الاندماج بشكل لا يؤثر على مبادئي وأفكاري، وهذا صعب جداً بصراحة». وفيما يعرب علاء (اسم مستعار)، بدوره، عن سعادته العارمة بعودته إلى المنزل، يقول لـ«الأخبار»، إنه «لا ينفك يرسم سيناريوات قاتمة عن مصيره خارج القضبان»، بينما يروي «أصعب لحظات عايشها في السجن، لدى استماعه ليلة كاملة إلى صيحات أحد المعتقلين تحت سوط التعذيب».

تحديات إعادة الدمج
ولعلّ ما يفاقم التحديات الماثلة أمام المفرَج عنهم، مساواتهم، أثناء اعتقالهم، بالسجناء الجنائيين، وذلك بموجب التعديلات الطارئة على قانون مباشرة الحقوق السياسية الصادرة عام 2018، أو ما يسمّى «قوانين العزل السياسي»، ما يجردهم من حقوقهم المدنية والسياسية، من مثل المشاركة في الانتخابات، أو الحصول على علاوة السكن، أو شهادات حسن السيرة والسلوك التي يحتاجها المواطنون للتقدم إلى أي وظيفة. وفي هذا السياق، يتحدث المدافع عن حقوق الإنسان، علي الحاجي، وهو بدوره سجين رأي سابق في البحرين، في حديثه إلى «الأخبار»، عن صعوبة حصول المفرج عنهم على فرصة عمل، حيث «يُحرمون من التقديم إلى بعض الوظائف الحكومية والخاصة بسبب سجلهم الجنائي»، كما «يتجنب المالكون وبعض الشركات العقارية تأجيرهم»، وهو ما «يعيق إعادة بناء حياتهم بشكل منتج». ويشدد على أن «تسهيل إعادة الاندماج يتطلب نهجاً شاملاً، يتضمن تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن تعديل السياسات البيروقراطية لتقليل التمييز ضد المفرج عنهم وتوفير فرص حقيقية لهم للبدء من جديد»، مستدركاً بأن «هذا لن يحدث إلا بتنفيذ العدالة الانتقالية وإعادة تأهيل السجناء السياسيين».
تجري مساواة المعتقلين السياسيين بالسجناء الجنائيين، وهو ما يضاعف معاناتهم عقب الإفراج عنهم


وفي الاتجاه نفسه، إنما على المستوى النفسي، يتحدث الطبيب النفسي البحريني، علي الفرج، عن جملة من التداعيات النفسية التي تخلفها سنين السجن الطويلة على المعتقلين، لافتاً إلى أن «بعض الحالات، ولا سيما تلك التي تعرضت لأصناف من التعذيب، تواجه صعوبة في العودة إلى الحياة بصورة طبيعية، وقد تعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، أو اضطرابات النوم، أو الوسواس القهري، إلى جانب فقدان الأمل أو الثقة بالآخرين». كما يشير الفرج، في حديث إلى «الأخبار»، عن «الوصمة الاجتماعية التي تلاحق بعض المعتقلين، والتي تصعّب عليهم الاندماج والتكيف مع المجتمع»، مشدداً على «ضرورة احتواء المفرج عنهم، وتأهيلهم نفسياً واجتماعياً، وحتى اقتصادياً عبر تسهيل عملية دخولهم إلى سوق العمل، لما في ذلك من تأثير إيجابي على عملية تعافيهم واندماجهم في المجتمع من جديد».
مع ذلك، بدت لافتة الحالة التي ظهر عليها عدد من المعتقلَين لدى إطلاق سراحهم، إذ ردّدوا شعارات سياسية مناهضة للسياسات الرسمية وفي مقدمتها التطبيع، وهو ما يفسره الفرج بأن «الحالات التي تتعرض لاضطرابات نفسية تستدعي المساعدة، تشكل النسبة الأقل من مجموع المفرج عنهم، لعوامل عدة، أبرزها تفاوت الاستجابة النفسية للصدمات بين الأشخاص، بالإضافة إلى الإيمان الكبير لدى المعتقلين بأحقية القضية التي اعتُقلوا من أجلها». ولعلّ أبرز مصاديق ذلك، رموز المعارضة المعتقلون منذ عام 2011، والذين ترفض السلطات الإفراج عنهم حتى اليوم، من مثل حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين، اللذين دعيا البحرينيين مراراً إلى التحلي بالصبر والثبات، مؤكدين أن «السجن أحب إليهما من التنازل عن حق من حقوقهما قيد أنملة».