كيف تصنف إسرائيل التهديدات ومراتبها وأولوياتها؟ سؤال يتجاذب حوله أسئلة، وهو محور اهتمام وموضوع بحث أساسي لدى المراقبين والخبراء الإسرائيليين، كما أنه موجود بصورة دائمة على طاولة القرار السياسي والأمني في تل أبيب. وأهمية الإجابة عن السؤال أنها تبلور معياراً لفهم الاستراتيجية الإسرائيلية المتبعة، وتمكن من ترقب وتقدير خطواتها العملية تجاه لبنان وسوريا، وأيضاً تجاه ساحات التهديد الأخرى.
إحدى الإجابات صدرت عن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في معرض تبرير وقف إطلاق النار مع قطاع غزة. في حينه، وبعد أيام من عملية «الجرف الصامد»، أكد نتنياهو أن سبب إيقاف العملية العسكرية وجود تهديدات في ساحات أخرى، تلزم إسرائيل بعدم استنفاد قدراتها في القطاع. تحدث نتنياهو في حينه عن حزب الله وداعش في لبنان، وعن القاعدة في الجولان، وأيضاً عن التهديد النووي الإيراني.
إلا أن ما صدر عن نتنياهو كان وصفاً وتعداداً للتهديدات التي تواجهها تل أبيب، في ساحات غير قطاع غزة، لكن من دون تفصيل بين تهديد استراتيجي وتهديد تكتيكي، بين دائم ومؤقت، وبين مؤثر وأقل تأثيراً، وبين تهديد يمكن احتواؤه، وآخر لا. بعبارة أخرى، لم يفصل في أهمية التهديدات وترتيبها.
ما بعد «الهزة في العالم العربي»، كثر في إسرائيل الحديث عن التهديدات وفرضياتها. التصريحات والمواقف، إضافة الى ما ورد في الإعلام العبري من تحليلات، كان كفيلاً بإرضاء الإعلام العربي على مختلف اتجاهاته. وسائل إعلام عربية تلقفت وأبرزت، وما زالت، ما تراه مناسباً لتوجهاتها وميولها وما يكفي الإضرار المعنوي بأعدائها وخصومها، بينما أهملت تصريحات أخرى، قد تكون نقيضة.
وللتوضيح، نأخذ الموقف الإسرائيلي من النظام السوري. وهو تهديد لا لبس فيه ومتصل بأكثر من تهديد لا يقل أهمية عنه، بل ذو أبعاد وجودية من ناحية إسرائيل. عدد من الكتبة العرب، تبعاً لميولهم، يتناسون كل ما صدر عن تل أبيب من تهليل وبشارات حول سقوط الرئيس السوري، بشار الأسد، ومن أعلى الهرم السياسي والعسكري في إسرائيل. يتناسون كل ما قيل وكتب عن الفوائد الاستراتيجية للدولة العبرية جراء سقوطه، وهي تصريحات كثيرة الى حد لا يمكن حصره، ليركز على مقولة قيلت في أحد استديوات التلفزة العبرية: «الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه»، في إشارة طبعاً الى النظام في سوريا. وهي مقولة، الى جانب مقولات أخرى، جاءت بعد انتهاء الفعل، وبعد يأس إسرائيل وتيقنها من أن الأسد باق، وغابت فرضية سقوطه وإسقاطه، عن المشهد الإقليمي.

الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه


مثال آخر، عن تهديد داعش وتنظيمات القاعدة. يكاد لا يوجد أحد في إسرائيل إلا تحدث عن «الدولة الإسلامية وجبهة النصرة ومثيلاتها»، ويكاد لا يوجد أحد شذ عن السياق العام الحاكم لهذه المسألة: «لا يشكل داعش تهديداً لإسرائيل»، بل إن متطرفي الرأي من بين الإسرائيليين، الذي يصفون داعش كتهديد، يرون أنه تهديد غير مباشر وبعيد، وأن «إسرائيل قادرة بسهولة على مواجهته». أما من ناحية عملية، فيكفي صدور موقف آخر، وإن كان مجتزأً، ليجري إبرازه حول داعش والقاعدة وما يتماثل معهما. فصديق صديقي هو أيضاً صديقي.
أمس، برز موقف لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، والرئيس الحالي لمركز أبحاث الأمن القومي، اللواء عاموس يدلين، أكد فيه أن «على إسرائيل أن تحافظ على سلّم صحيح للأولويات بما يتعلق بالأمن القومي: الموضوع النووي الإيراني؛ قدرات حزب الله؛ وتفكك سوريا. وعندها فقط، يمكنها التعامل مع داعش وحماس»، لافتاً إلى أن داعش، في الأساس، لا يشكل تهديداً لإسرائيل، كما أنه بطبيعة الحال لا يشكل تهديداً مباشراً. وبحسب يدلين أيضاً، يجب التفريق بين التهديد الاستراتيجي، كما هي حال إيران النووية وقدرات حزب الله، وبين التهديد التكتيكي، كما هي حال جبهة النصرة وداعش، وسيطرتهما وانتشارهما على الحدود مع سوريا. يضيف أيضاً، إن الضابط المسؤول عن الأمن الجاري في الجولان سينظر إلى خطر النصرة على أنه تهديد استراتيجي، لكن صاحب القرار في تل أبيب، الذي ينظر بصورة أشمل، سيراه تكتيكياً.