بالنتيجة، صورة الميدان مغايرة تماماً لما يجري بثّه في استوديوات قنوات التلفزة العبرية، والتي تبشّر الإسرائيليين بقرب تحقيق انتصار، قبل أن تعود هي نفسها إلى التواضع والحديث عن ضرورة خفض التوقعات العالية السقوف، وتقريبها من القدرة الفعلية على الإنجاز. ولعلّه تكفي الإشارة هنا إلى أن خمس فرق من الجيش الاسرائيلي، بما يشمل ألوية النخبة على اختلاف مسمّياتها واختصاصاتها، وكذلك وحدات خاصة هي «نخبة النخبة» في الجيش الإسرائيلي، تُقاتل في رقعة جغرافية محدودة جداً، عدة آلاف من المقاومين الفلسطينيين، ليتضح إلى أيّ مدى وصل الإنجاز الفلسطيني، عسكرياً، في الشهر الثالث للقتال.
وصلت إسرائيل إلى الحدّ الأقصى ممّا هي قادرة على إنجازه
أما سياسياً، فلا يبدو أن جديداً دخل على المشهد، على رغم أن الجانب الإسرائيلي بات يدرك أن أهدافه التي أعلنها ابتداءً، غير قابلة للتحقق. إلا أن المعضلة الإسرائيلية، في هذه المرحلة، ليست في ذلك فقط، بل أيضاً في أن إسرائيل غير قادرة على التراجع، من دون تحقيق تلك الأهداف. وعلى هذه الخلفية، يميل الرأي السائد لدى صنّاع القرار في دولة الاحتلال إلى اعتبار مواصلة الحرب أقلّ سوءاً من إيقافها، في كل الموازين، وربما بما لا يقاس. وفي هذا السياق، يعمل الجيش الإسرائيلي على المزيد من الشيء نفسه، مع الأمل بأن يتحقّق «شيء ما»، يتيح له الانتقال إلى المرحلة الثالثة من العملية البرية، والتي تتوافق مع ما يريده الراعي الأميركي، وهو الانسحاب من أماكن الاحتكاك المباشر، ومواصلة القتال عن بعد، الأمر الذي يقال إنه سيبدأ بعد عدة أسابيع من الآن، ويعمل الأميركي على تسويقه، بأنه يأتي نتيجة ضغط منه.
هو إذاً شكل جديد من أشكال الحرب يُعمل عليه، عنوانه تخفيض حدّة القتال، ومواصلته وفقاً لمتطلّبات الحلّ الذي يراد فرضه على الفلسطينيين، أي بما يشكل ورقة ضغط لمساعدة المفاوضين على فرض الإرادة الإسرائيلية. لكن في المقابل، ليست ثمة لدى الجانب الآخر نية للتراجع، بل لا يجد المقاومون ما يدفعهم إلى ذلك، الأمر الذي يجعل مهمّتهم أكثر وضوحاً بكثير مما هي عليه لدى الإسرائيلي. باختصار، المقاومة ستواصل القتال، في انتظار انكفاء العدو الذي تستمر في تدفيع قواته المتوغلة، أو تلك شبه المتمركزة في مواقع خلفية، أثماناً يومية من دون التراجع عن شرط عدم الإفراج عن الأسرى إلا بعد وقف إطلاق النار بصورة تامة، وبموجب مفاوضات للتبادل تقوم على تبييض السجون، وكذلك في ظل رفض أي ترتيب في القطاع لا يتوافق مع المصلحة الفلسطينية في اليوم الذي يلي الحرب. أما إسرائيل، فقد وصلت إلى الحد الأقصى مما هي قادرة على إنجازه، لكنها لا تستطيع، ومن خلفها الراعي الأميركي، إنهاء الحرب الآن وفقاً للمعطى الميداني وما ترسّخ في الوعي الجمعي لدى الطرفين ولدى جمهورهما.
الحل مستعصٍ إذاً، عسكرياً وسياسياً. والميدان لا يشي بأيّ إمكانية لتغيير هذا الواقع قريباً. وإذا كان الأمر كما تقدّم، فسيكون إعلان النصر، شأنه شأن إعلان الهزيمة، مؤجّلاً، وإن ظلّت سمة الفشل مرافِقة للجيش الإسرائيلي، في الطريق إلى ذلك.