لا يكلّف معظم مستوطِني عسقلان، التي تحوّلت إلى هدفٍ للمقاومة في غزة، أنفسهم، عناء الركض إلى الملاجئ العمومية - على قلّتها -، مفضّلين البقاء في غرف داخلية في بيوتهم. هكذا بدا المشهد كما نقلته صحيفة «هآرتس» من هناك؛ حين خرق زعيق صافرات الإنذار الصمت الذي ساد المستوطنة منذ بدء عدوان «درع وسهم»، وهرع على إثره بعض المستوطنين إلى أحد الملاجئ العمومية في شارع «الراف عوزئيل»، وكان معظمهم من سكان المستوطنة ذاتها الذين اعتادوا الوضع، فيما اثنان آخران أتيا من منطقة مغايرة ولم يكن الأمر معهوداً بالنسبة إليهما. بحسب الصحيفة، فإنه في معظم البيوت، فضّل المستوطنون البقاء في «الغرفة الميّتة»، وهي غرفة ليست مبنيّة لتكون ملجأ محصّناً، وإنّما دُعيت بذلك لأنها بلا نوافذ ومحاصَرة من جميع الغرف والأروقة، وتُعدّ المكان الأكثر أمناً في المنزل. وبالنتيجة، بعد 17 عدواناً على غزة، «يجد مستوطِنو أشكيلون أن غرفة ميّتة أفضل من ملجأ عمومي مكتظّ بالناس، ويحتاج للوصول إليه إلى 30 ثانية ركضاً».
من بقوا في منازلهم اضطرّوا إلى التنازل عن روتينهم اليومي؛ حيث يلازمون، منذ بدء العدوان، الملاجئ والغرف المحصّنة (أ ف ب)

مع كلّ جولة قتالية جديدة، تعود قضية افتقار عسقلان إلى الحماية والتحصين، إلى الواجهة. ومن خلال الجولة التي أجرتها «هآرتس» في الأحياء القديمة، وفي مقدّمتها «جفعات صهيون» و«رمات أشكول» و«عتيكوت»، تَظهر مداخل الملاجئ، ما بين مبنى السكّة الحديدية والمباني المهمَلة، «كما لو أنها جمّدت منذ زمن»، فيما جميعها غير متاحة للمعوّقين. على جدار أحدها، رُسمت صورة أفراها مينغيستو، إبن الحيّ، الذي أسرته حركة «حماس» منذ 3168 يوماً، بينما تَحوّل ملجأ عمومي آخر إلى مقرّ لمنظمة «هشومير هتسعير» (الحارس الشاب)، وبات ملجأ ثانٍ يستقبل الوافدين ببِركة ماء وأثاث ممزّق ورائحة العفونة والأوساخ. أمّا من يضطرّون لسكن هذه الأماكن، فلن يكون مستغرباً إذا ما تَبيّن أنهم المهاجرون اليهود من إثيوبيا ودول الاتحاد السوفياتي، والذين لا تعبأ الحكومة بأمرهم، علماً أن غالبيتهم يأتون من سلّم اجتماعي - اقتصادي سفلي.
تقول بنينا ليجلام (18 عاماً)، وهي مستوطِنة تقيم في حيّ «عتيكوت»، إنه تمّت صيانة الملجأ القريب من منزل عائلتها أخيراً، ومع ذلك فهي لا تلجأ إليه. والسبب أنها تعيش في الطابق الثالث، ويصعب عليها النزول هرولةً على السلالم خشية السقوط. وتضيف: «لم يَعُد الأمر يستحقّ تنظيف هذا الملجأ، إنه دائماً متّسخ، وحتى إن من الصعب جدّاً فتح بابه. لا يمكن المكوث هناك ولو لدقيقة»، متابعةً أن «المشرّدين يعمدون إلى استخدام الملاجئ في الأيام العادية، ويصعب على سكّان الحيّ تنظيفها كلّ مرّة». وكانت المستوطِنة زوهار دانينو قد كتبت على صفحتها في «فيسبوك» قبل يومَين: «أنهار من الرعب مع كلّ عملية عسكرية. لا ملجأ ولا مركز طبّي قرب منزلي»، لتعود وتقول في مقابلة مع الصحيفة إن «هناك العديد من العائلات في الحيّ نفسه، والملجأ لا يكفي للجميع (...) لقد اتّصلت مرّات عديدة بالخطّ الساخن، ووعدوا بإيجاد حلّ، وأخيراً بعد طول انتظار، نظّفوا الملجأ وفتحوا آخر في مدرسة قريبة منّا»، مستدرِكةً بأنه «عند كلّ عملية تتكرّر الأمور ذاتها، فيما في الواقع لا شيء يتبدّل».
مع كلّ جولة قتالية جديدة، تعود قضية افتقار عسقلان إلى الحماية والتحصين إلى الواجهة


ليست هذه هي المرّة الأولى التي تستعرض فيها وسائل الإعلام الإسرائيلية قصصاً من هذا النوع، تعكس الفشل الحكومي الذي يستشعره المستوطنون هناك. فبحسب مسؤول في بلدية عسقلان، فإن 25% من هؤلاء، أي 40 ألفاً، ليس لديهم مكان يتحصّنون فيه. وعلى الرغم من أن الحكومة السابقة قدّمت منحة بقيمة 306 ملايين شيكل لمشروع التحصين، لا يزال هذا الأخير متعثّراً؛ حيث ينتظر الكثيرون الحصول على رخص بناء ملاجئ ومنحة مادّية لفعل ذلك. ومن بين هذه العائلات، عائلة سوكرا، التي نُصب على مقربة من منزلها أخيراً ملجأ عمومي، سيكون على أفرادها الركض لأكثر من 200 متر للوصول إليه، فيما هو «لا يكفي لجميع سكّان الحيّ». تشير غولا، وهي ربّة الأسرة، إلى أنه «إذا كان هناك ازدحام في الداخل، فلا خيار سوى البقاء خارجاً»، فيما زوجها، يتسحاق سوكرا، يقول: «عمري 61 عاماً، ولديّ ألم في الساقين ولا أستطيع الركض إلى الملجأ... في عسقلان أحياء كثيرة مهمَلة تماماً (من الحكومة)». خارج الملجأ، جلست أمّ مع ثلاثة أطفال، بعدما «تركنا كلّ شيء وجئنا إلى هنا. إنّنا عطشى وجائعون وليس لدينا حتى قارورة مياه واحدة. هذه ليست حياة، وهذا الوضع صعب للغاية، فماذا يعني أن تجلس طوال الوقت على كرسيّ بلاستيكي آملاً في الحصول على فرشة وبطّانية؟»، كما تقول.
ليل الأربعاء - الخميس، سقطت عشرات الصواريخ على عسقلان، غالبيّتها طبقاً لموقع «كان أشكيلون (هنا عسقلان)» أسقطتها منظومة «القبة الحديدية»، فيما تمكّن أحدها من إصابة منزل إصابة مباشرة، ملحِقاً به أضراراً جسيمة. لم تستطع الرقابة العسكرية المفروضة على نشر الوقائع أن تحجب حقيقتها هذه المرّة. فقد خرجت صاحبة البيت المقصوف، مريم كيرن، لتصف ما حصل، قائلةً: «في الوقت الذي سمعتُ فيه صافرة الإنذار هرعت إلى ملجأ بَنَيتُه بنفسي في المنزل، الذي تلقّى ضربة شبيهة في حرب سابقة مع غزة، وبذلك نجوتُ من الموت». لدى وقوع الانفجار الضخم الذي هزّ أرجاء المستوطنة، وصل رئيس البلدية، تومير غلام، إلى بيت كيرن، حيث أثنى على سلوكها، فيما لم ينسَ الإشارة إلى أن «كلّ مستوطن ومستوطنة يحقّ له الحصول على ملجأ»، مشدّداً على أنه «يتوجّب العمل بصورة جدّية على تحصين الحارات وتوفير الإمكانية لإنقاذ الحياة لكلّ سكّان أشكيلون».
أمّا في مستوطنة «سديروت»، فيكاد المشهد لا يختلف كثيراً. في السابق، كان المستوطنون هناك يصرّون على البقاء على الرغم من كلّ شيء، أمّا اليوم فإن الوضع قد تَبدّل كثيراً. إذ وفقاً لصحيفة «يسرائيل هيوم»، فإن «المصابين بالصدمات جرّاء الصواريخ باتوا يفضّلون التعقّل (النزوح من المستوطنة)، ويمكن إيجاد مثل هؤلاء في مناطق عديدة غير سديروت». وتلفت الصحيفة إلى أن الكثيرين ممّن يستطيعون تحمّل التكلفة، يفضّلون النزوح إلى بيوت أقربائهم أو أصدقائهم الذين يسكنون خارج دائرة النار. وكانت البلدية قد أخلت، أوّل من أمس، 3000 مستوطن (بما يصل إلى عُشر المستوطنين)، معظمهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأصحاب الأمراض المستعصية، إضافة إلى كبار السنّ، والعائلات المسجَّلة في دائرة الرعاية الاجتماعية، وهو ما أثار غضب كثيرين تساءلوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي: «لماذا تخلي البلدية هؤلاء فقط ولا تساعدنا؟».
من بقوا في منازلهم اضطرّوا إلى التنازل عن روتينهم اليومي؛ حيث يلازمون، منذ بدء العدوان، الملاجئ والغرف المحصّنة. على شارع رقم 232 في مفترق «سديروت»، وعلى مقربة من «كلية سفير»، سُمعت صافرة الإنذار، فيما كان وفد من «يسرائيل هيوم» يجري جولة هناك. بحسب أفراده: «نزلنا من السيارة، ودخلنا إلى الملجأ القريب من محطّة وقود، كانت هناك امرأة مذعورة تصرخ بأنها لا تعرف كيف ستصل إلى بيتها في أشكيلون، حاولنا تهدئتها، وعلى الفور أدركنا أنه حتى الأشخاص الطبيعيون قد يفقدون أعصابهم لدى سماع الصافرة». على بعد دقائق من هناك، وفي أحد مسارات «كيبوتس نير عام»، التي تبدو مهمَلة تماماً، وقفت باني برودسكي بعدما رفضت المغادرة، وعندما سئلت عن السبب أجابت: «ماذا لديّ لكي أتركه؟ أنا هنا في غرفة محصّنة طوال الوقت، ليس لديّ أولاد ولا أحفاد ولا حتى عائلة، ولهذا لم أتكبّد عناء الذهاب إلى أشكيلون». لكن امتياز الغرف المحصّنة ليس متاحاً للجميع؛ ففي «الكيبوتسات» والبلدات التابعة للمجلس الإقليمي في «أشكول»، من أصل كلّ خمسة بيوت، ثمّة واحد لا يحتوي على غرفة من هذا النوع، ولذا يضطرّ ساكنوه إلى الوقوف تحت الأعمدة أو ببساطة الاستلقاء على الأرض، علماً أن معظم الجرحى الذين نُقلوا إلى مستشفى «برزلاي» أصيبوا أثناء هروبهم إلى غرف الطوارئ. ولذا، لا يبدو مستغرَباً قول مستوطِن من «سديروت» لموقع «واللا»: «أعيش هنا منذ 25 عاماً، لكنّني الآن أفكّر في ترك المستوطنة والانتقال إلى منطقة أخرى بعدما أصبحنا نرتعب من أيّ ضوضاء».