لم تنعكس المحادثات الجارية في مدينة جدة السعودية، ما بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع»، تهدئةً على الأرض، حيث لا يزال القتال على أشدّه خصوصاً في العاصمة الخرطوم، فيما تجتاح حالة الفوضى والتخريب المتعمّد مناطق كثيرة، جارفةً في طريقها منازل ومحالّ تجارية ومصانع ومراكز حيوية. وعلى رغم الاستبشار الإعلامي ببدء محادثات التهدئة، إلّا أن تواضع جدول المناقشات، وتمسّك طرفَي القتال إلى الآن بالخطاب التصعيدي «الصراعي»، واضطراب رؤى القوى الإقليمية والدولية للوضع القائم في السودان، كلّها عوامل تشي بأن مفاوضات جدة قد لا تنتج أكثر من هدنة هشّة مؤقّتة، بعيدةً عن جذور الصراع الذي أسهم كلا الطرفَين الراعيَين للسلام اليوم - واشنطن والرياض - في إزكائه
دخلت الأزمة في السودان فصلاً جديداً (نسبياً)، بإعلان واشنطن والرياض (5 أيار) نجاح مبادرتهما في إقناع الأطراف السودانية بالانخراط في محادثات مباشرة في مدينة جدة على ساحل البحر الأحمر. وجاء ذلك بعد 24 ساعة فقط من تلويح الرئيس الأميركي، جو بايدن، بفرض عقوبات ضدّ الأطراف المتورّطة في ارتكاب «انتهاكات». وعلى رغم هذه المؤشّرات المغايرة للتوجّه «الصِّراعي»، فإن محدودية أجندة المحادثات، والتناقض الكبير في سياسات بايدن في السودان، ومآلات هذا التناقض، والاستجابة السودانية المتحفّظة تجاه المحادثات، تجعل آفاق التسوية محدودة للغاية، بحيث لا تتجاوز ربّما هدنة طويلة نسبياً، إلى مناقشة أيّ ترتيبات تتعلّق بمستقبل المرحلة الانتقالية. ومع دخول المناقشات يومها الرابع، لم تَخرج من جدة السعودية أيّ مؤشّرات إلى حدوث اختراقات هامّة، يمكن أن تمهّد لإقرار وقف إطلاق نار دائم.

محادثات جدة: أجندة مختصرة
بدت المبادرة الأميركية - السعودية، منذ لحظاتها الأولى، الأكثر قدرة على الصمود والقبول لدى أطراف الأزمة في السودان، وهي أثارت توقّعات بإمكانية تحقيقها خرقاً في ظلّ التعاون السعودي - الأميركي في عمليات الإجلاء، وما يبدو أنه تنسيق على مستويات أخرى. واتّساقاً مع هذا التنسيق، حثّت واشنطن والرياض، في بيان مشترك (5 أيار)، أطراف النزاع السوداني، على الأخذ في الاعتبار مصالح الدولة السودانية وشعبها، والمشاركة بفاعلية في محادثات وقف إطلاق النار وإنهاء الصراع، مؤكّدتَين استمرار الدعم الدولي لعملية تفاوض موسّعة «يجب أن تشمل جميع الأطراف السودانية». وفي أعقاب مواقف متذبذبة من تلك المبادرة من قِبَل الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع»، بدأت بالفعل محادثات مباشرة بينهما في جدة (6 أيار)، تركّزت، بحسب المؤشّرات الأوّلية، على فتح المعابر الإنسانية في الخرطوم وأم درمان، ومحاولة إعادة نحو 350 ألف سوداني شُرّدوا داخل البلاد عقب القتال، ووضع آليات لعودة نحو 100 ألف آخرين فرّوا من البلاد إلى دول الجوار (يُتوقّع أن يصل العدد في حال استمرار القتال إلى 800 ألف فرد، ما سيخلق مشكلة لجوء كبيرة في أفريقيا ستمتدّ تداعياتها عبر المتوسط والبحر الأحمر إلى أوروبا وشبه الجزيرة العربية مع ملاحظة وجود 1.1 مليون لاجئ في السودان قبل 15 نيسان). وتكشف هذه الأجندة المختصرة عن تحفّظ مبدئي وواضح عن الانخراط في عملية تسوية شاملة للأزمة، في ظلّ تفاوت رؤى الطرفَين لأدوارهما السياسية المحتملة بعد انتهاء القتال، واضطراب مقاربات القوى الإقليمية والدولية لما يجري في هذا البلد. وبالفعل، ذكر ديبلوماسي سعودي (8 أيار) أن المحادثات لم تحقّق تقدّماً هامّاً بعد، فيما أعلن بيان للخارجية السعودية استمرار المفاوضات «في الأيام المقبلة ترقّباً للتوصّل إلى وقف إطلاق نار على المدى القصير، يتيح توصيل المساعدات الإنسانية»، ممّا يؤشّر إلى الأفق الحقيقي للنقاشات الجارية.

مبدأ بايدن في السودان: بسط «السلام الأميركي»
في ظلّ البلبلة التي تسِم السياسة الأميركية في السودان، بات هذا الأخير اختباراً حقيقياً لهدف إدارة بايدن الخارجي المعلَن، والمتمثّل في «تعزيز الديموقراطيات في أرجاء العالم». وفي هذا الإطار، رأى محلّلون أميركيون أن الإدارة فشلت تماماً في تمكين القادة المدنيين، وجعلت أولوية لها التعامل مع قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، حتى بعد قيامهما بانقلاب تشرين الأول 2021، بل وكثّفت، عبر مولي في، كبيرة مسؤولي الشؤون الأفريقية في الخارجية الأميركية، مساعيها لتوطيد العلاقات مع الرجلَين. كذلك، انتقد كاميرون هيدسون، المبعوث الرئاسي الخاص السابق للسودان، سياسة مسؤولي بلاده وثقتهم المفرطة «بما يقوله الجنرالات لهم»، معتبراً أن رغبة واشنطن في مساومة الجنرالات قادت إلى شرعنة سلطتهم.
يكشف التناقض الواضح في سياسات واشنطن عن رغبتها المستمرّة في فرض «سلامها الأميركي»


وإذ جاء تلويح بايدن بالعقوبات، من ناحية التوقيت، في أعقاب إتمام بلاده عمليات إجلاء كبرى لمواطنيها عبر بورتسودان منذ مطلع أيار، وانخفاض مستويات تهديد مَن تَبقّى منهم في السودان، فإن وصفه القتال الدائر بـ«الخيانة»، وتهديده بمعاقبة الطرفَين المتحاربَين، يستبطنان تناقضاً ملحوظاً مع سياسات واشنطن قبل 15 نيسان - وربّما على وجه أكثر دقّة قبل المحادثات الهاتفية بين وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، والبرهان (11 نيسان الفائت) -، والتي دفعت بقوّة نحو تسوية ناقصة ومخلّة بأبسط قواعد الدعم الشعبي، وتركت فجوات شاسعة لدول وأطراف خارجية للتلاعب بمقدّرات البلاد، بل سلّمت الملفّ بالكامل في الشهور الأخيرة لإدارة إسرائيلية وإماراتية (بالوكالة). كما أن مواقف بايدن الأخيرة لا تمثّل استثناءً من مواقف أميركية سابقة في بؤر نزاع متعدّدة، ولا سيما في أفريقيا ودول جوار السودان (مِثل إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان).
وفي مقابل محاولة إدارة بايدن تدارك أوجه الخلل البنيوية في سياساتها، توقّعت أفريل هينز، مديرة الاستخبارات المركزية الأميركية، في جلسة استماع في مجلس النواب (4 أيار)، استطالة الصراع السوداني، في ظلّ قناعة أطرافه بأنه يمكنهم الفوز عبر المواجهة العسكرية، وسعيهم الراهن لحشد دعم عسكري خارجي، والذي يُنظَر إليه سودانياً على أنه مؤشّر إلى وجود إرادة أميركية لإدامة الفوضى، وخصوصاً أن لدى واشنطن، في المقابل، قدرة على الضغط على الطرفَين (وشبكات دعمهما) للتوصّل إلى تسوية في توقيت مبكر. كذلك، عبّرت هينز عن مخاوفها من أن يخلق الصراع «تحدّيات متداعية» في البلاد، لافتةً إلى عدم وجود حوافز كافية لدى الطرفَين للدخول في مفاوضات (ما يلقي ظلالاً من الشكّ على جدّية محادثات جدة الراهنة)، ومحذّرة من أنه في حال نجاحهما في الحصول على مساعدات عسكرية خارجية، فإن تداعيات الصراع ستمتدّ إلى الإقليم.
ويكشف هذا التناقض الواضح عن رغبة واشنطن المستمرّة في فرض «سلامها الأميركي»، عبر الوصول بالدولة السودانية ومؤسّساتها إلى الحدود الدنيا من الفاعلية، ومن ثمّ دفعها إلى تقبّل أيّ تسويات مفروضة بمشروطيات مكلفة للغاية، ترهن مجمل مستقبل السودان بارتباطات وترتيبات أميركية في نهاية الأمر، مع التنبيه، هنا، إلى حرص الولايات المتحدة والسعودية على عدم إشراك فاعلين إقليميين ودوليين مباشرة في المناقشات الجارية في جدة، بل وعلى «التملّك الكامل للعملية أكثر من السعي لنجاحها الحقيقي».

ماذا بعد؟
بادرت القوى المُوقّعة على «الاتفاق الإطاري»، على الفور، إلى الترحيب بالمحادثات التي لم تتناول أجندتها مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. وعبّرت هذه القوى (6 أيار) عن أملها في أن تفسح المحادثات «الطريق أمام حلّ سياسي سلمي دائم»، من دون الحديث عن مضمون هذا «الحلّ» من وجهة نظرها. وفي المقابل، أبدت القوى الداعمة للجيش، وعلى رأسها قوى الإسلام السياسي، تحفّظاً إزاء التراجع عن مهمّة حسم المعركة مع «الدعم السريع» بشكل كامل، وعدم الخوض في تسوية سياسية قبل ذلك، بينما علت، لاحقاً، أصوات تَنظر إلى العملية برمّتها بوصفها «شرعنة» للأطراف المتحاربة. أمّا على الأرض، فقد تصاعدت، عقب الإعلان عن بدء المحادثات، عمليات العنف في السودان، وبشكل خاص في العاصمة الخرطوم (7 أيار)، حيث كثّف الجيش ضرباته الجوّية لمواقع وأهداف متحرّكة لـ«الدعم السريع»، فيما كشفت شهادات شهود عيان عن رغبة أعداد من منسوبي هذه القوات في الاستسلام، من دون وجود آلية عملية وواضحة لسحبهم من ميدان المعركة. وهكذا، يبدو أن أفق محادثات جدة سيظلّ محدوداً للغاية، ومقصوراً على مهمّة تثبيت وقف إطلاق النار (الذي ظلّ إلى الآن اسمياً فقط، من دون التزام حقيقي بمتطلّباته). ولعلّ الناطق باسم الجيش السوداني، نبيل عبد الله، عبّر عن ما تَقدّم بوضوح، بقوله إن المحادثات تدور «حول كيف يمكن تطبيق الهدنة على نحو سليم لخدمة الجانب الإنساني»، بينما وصفها «حميدتي» في تغريدة قصيرة بـ«المناقشات الفنّية»، وهي تصريحات تعزّز الخلاصات السابقة.